بدأ العالم العربي يشهد تجارب في الموسيقى التجريبية باكراً؛ إذ كان الموسيقي المصري حليم الضبع رائداً في موسيقى الكونكريت، وسجل عملاً بعنوان "صوتيات سلك معدني" في عام 1944، في أستديوهات القاهرة. هذا النمط لم يحظ عربياً باهتمام شعبي، أو نخبوي.
حتى في الغرب، اقتصر هذا التجريب على دوائر ضيقة، وإن كان مدعوماً كاتجاه طليعي؛ إذ تماهت بعض التيارات الفنية في معامل التجريب. واعتبره الموسيقي الروسي إيغور سترافنسكي أشبه بجلسات تحضير الأرواح، وهي نظرة الاستخفاف التي تلازمه حتى اليوم من الموسيقيين التقليديين والملتزمين بأصوات السلم الموسيقي. ومع ظهور الآلات الموسيقية الكهربائية، ودخول الحواسيب، أعطى لهذا النمط زخماً شعبياً حول العالم، من خلال اندماجه مع أساليب موسيقية تحظى بتقدير شعبي.
تنوّعت الأساليب التجريبية في العالم العربي إلى أن أصبحت اتجاهاً معبّراً بالنسبة لعدد كبير من الفنانين الشباب. وفي النصف الثاني من أول عقد للألفية، ستصبح موضة موسيقية في محتوى البوب العربي، لكنها انحصرت في موسيقى الهاوس، وتلك الإيقاعات الراقصة التي حققت نجاحاً تجارياً لافتاً.
لاحقاً، انتشر عدد كبير من صانعي الموسيقى التجريبية، كثير منهم لاعبو دي جي؛ إذ قدموا أشكالاً عديدة، مثل الهاوس والتكنو والدامب، وغيرها. تبقى منتجاتهم الموسيقية ضعيفة مقارنة بالمستوى العالمي. فحين تعاون عمرو دياب مع لاعب دي جي في ألبومه "يا كل حياتي" عام 2018، اختار لاعب الدي جي مارشليمو في أغنية "باين حبيت" وهي بأسلوب التكنو.
أخذ هذا المجال حيزاً من اهتمام الشباب، وارتبط هذا التيار الجديد لصانعي الموسيقى بصيغ تلائم هوياتهم الموسيقية. هكذا، انفتحت مسارات عديدة استوعبوا فيها أساليب متنوعة لموسيقى الكونكريت، مثل الهاوس والتكنو والدامب وغيرها. إلا أن صناعة موسيقى تجريبية تبقى مرتبط بالرؤية، وأيضاً بالتداعي الحر. هناك مساحات قائمة على الارتجال والمصادفة، مع وجود تصورات مسبقة، تعتمد على مخيلة وذكاء موسيقيي هذا النمط.
أعطت موسيقى "المهرجانات" زخماً للموسيقى الإلكترونية. أسلوب غناء شعبي وظف الموسيقى الإلكترونية، سواء في الموسيقى نفسها، أو عبر كهربة صوت المغني. اقتصرت موسيقى "المهرجانات" على الأحياء الشعبية الفقيرة في القاهرة، المكتظة والهامشية. وانتشرت على نطاق واسع منذ 2011، إذ منحت الانتفاضات العربية الأصوات المهمشة مساحةً للتعبير عن نفسها.
استثمر عدد من الفنانين المصريين نجاح موسيقى المهرجانات في تقديم هوية موسيقية تجريبية قائمة على الألحان الشعبية. هكذا، قدّم الفنان المصري موريس لوقا اللون الشعبي، ليغدو واحداً من أهم الموسيقيين التجريبيين الشباب في العالم العربي. ويتسم بالرؤية وبراعة التنفيذ مقارنة بكثيرين.
هذا الاتجاه الشعبي واضح في ألبومه "بنحيّي البغبغان"، مستلهماً فيه موسيقى المهرجانات. وظهرت مقطوعات الألبوم في شكل مهرجاني أو احتفائي في مقطوعة "بنحيّي البغبغان"، مستعيداً ألحان المولد الشعبي، ضمن التقنيات الصوتية التجريبية. لكن هذا الدمج مؤسس على تعريف وطني يشغل فيه الصوت الشعبي احتفاء بذائقة سادت مؤخراً.
لم يكن خطأ موريس في هذا المزج الإحيائي لنمط شديد المحلية، بل سبق أن جاور المزمار البلدي آلات غربية في بدع السبعينيات، أو في حواريات ملفقة. حتى وإن أبرز لوقا مهارته في التلاعب بالموازين والألحان، والتقنيات الكونكريتية؛ فهل هذا المشروع يتيح لهذا الصوت الشعبي أن يغدو عالمياً، من خلال حصر الملامح "العالمية" في موسيقى شعبية؟
الاستناد إلى موسيقى شعبية، في طابع عصري، يعوزه البناء الموسيقي. ونجاح موسيقى المهرجانات كان خادعاً، فليس كل ما هو رائج، بالضرورة جيدا. لكن قراءة الموسيقى الإلكترونية ونقدها تتطلبان التخفف من مرجعية الموسيقى التقليدية الملتزمة بالسلم الموسيقي، ووضع الاعتبار لأساليبها التكنيكية. غير أن ما نلحظه هو تزاحم المضامين.
يمكن للموسيقى الإلكترونية تكثيف المضامين اللحنية في زمن قصير نتيجة الارتباط بمعامل حاسوبية يمكنها تنفيذ الأصوات ومزجها بصورة تعجز عنها الآلات الموسيقية. وهذا يتطلب رؤية اقتصادية، لا تجعل التكثيف مجرّد رصّ أفكار ومضامين.
وبالعودة إلى تجربة مبكرة في الموسيقى التجريبية، قدمتها الفلسطينية كاميليا جبران، وأثّرت في أسلوبها على جيل منهم: تامر أبو غزالة، وهدى عصفور. واللافت هو توظيف الأصوات غير الموسيقية والتنافر الصوتي في المسار الغنائي لترتفع حدة صوته باستخدام تقنيات هندسية. لكن الموسيقى الإلكترونية أقل إفراطاً في تحرّرها من قواعد الغناء أو الموسيقى الكلاسيكية. وبما يتفق مع غاية تعبيرية عن غربة عالقة في وطن مُستلب.
يغلب على التجريب الموسيقي في العالم العربي كثير من التلفيق، وأحياناً يبدو التنفيذ متعجلاً أو غير مُحكم في مزج الصيغة الشرقية بالتجريب المحتد إيقاعياً أو حتى صوتياً. ففي بعض السياقات تبدو المنتجات الإلكترونية العربية محاولة لملاحقة عصر، لكن بحمولة ثقيلة من الماضي. أو أن طبيعة هذا النوع لا تتيح كثيرا من الإلهام الموسيقي خارج أطر التجريب، لكن الوقت كفيل بذلك، ما لم تصبح أعراف التجريب الموسيقي العربي مأخوذة في الشكل العشوائي للواقع، مجاورة العصري بجانب الشعبي في قتل للطابع.
أخيراً، أصبح التوجه نحو إنتاج هذا النوع من الموسيقى التجريبية في العالم العربي محاولة لملاحقة العصر بحمولة من الماضي. ليس فقط في العناصر الشعبية، هناك أيضاً العناصر التطريبية، فهل يمكن لتلك العناصر أن تتجاور مع الأسلوب الإلكتروني؟ يمكن الاستماع إلى عناصر من موسيقى الراغا الهندية في قالب موسيقي تجريبي. في الغرب، تمت إعادة توزيع ألحان كلاسيكية ضمن أساليب الموسيقى الكونكريتية.
في هذا السياق، نُشير إلى أن قصور المحتوى الإلكتروني العربي، على علاقة بسوء في التنفيذ، من جهة، والضعف التقني من جهة أخرى. لكن هناك أشكالا عديدة تم تقديمها، بما فيها الألحان الطربية، بأسلوب التكنو. وبعضها جاء بأساليب ذات صيغ غربية خالصة، أو تعتمد على روح الموسيقى الكونكريتية المتعارضة مع درجات السلم الموسيقي. غير أن العناصر اللحنية العربية تبدو أحياناً كأنها تغرد في سرب بعيد عن الموسيقى الإلكترونية. وهذا على علاقة بالتنفيذ والرؤية الموسيقية، حتى لا تبدو توليفات ملفقة. بصورة عامة، تحتاج هذه الأشكال الموسيقية إلى أن تركز على الإلهام اللحني، حتى لا تكون محصورة في البراعة التقنية، من دون ننسى أن الموسيقى الإلكترونية تعيش على ثورة التكنولوجيا.