عادة، يبدو وجه المُهرّج ضحوكًا ومُبهجًا ومثيرًا للفرح والسعادة. يتجلّى هذا عند رؤيته من مسافة، أو عندما تلتقطه الكاميرا عن بعد. لكن الاقتراب من الوجه الملوّن، والتفرّس في تفاصيله، خصوصًا ابتسامته العريضة وألوانه الفاقعة المتكلّفة، هذا كلّه يكشف النقيض: الحزن سمته، والوجه يبعث على الخوف غالبًا. لذا، نادرًا ما تمعّنت وتفرّست عدسة السينما طويلاً في وجه المهرّج، بينما تناولت أفلام عديدة حياته، مُظهرةً ما يكمن خلف تلك الابتسامة العريضة من بؤس وحزن وشقاء، غالبًا.
في "جوكر" ـ الفائزة بجائزة "الأسد الذهبي" في الدورة الـ76 لـ"مهرجان فينسيا السينمائي الدولي" ـ يتعمّد المخرج تود فيليبس أخذ لقطات مقرّبة وطويلة لوجه الجوكر، أو آرثر فْلِك (واكِن فينيكس). للأمر مغزاه، بالتأكيد. يتجاوز فيليبس استعراض الحزن أو الشقاء أو البؤس في حياة أحد المهرّجين إلى ما هو أبعد وأعمق. لكنه، في النهاية، يلعب على ثنائية الوجه والقناع، والحقيقي والزائف، وما يظهر على السطح، وما يكمن في الأعماق.
على السطح، تدور الأحداث في إحدى المدن الأميركية، الشبيهة بنيويورك، في ثمانينيات القرن الماضي. تعاني المدينة حالة بطالة، وإضراب عمّال النظافة عن العمل، ما أدّى إلى انتشار القمامة والفئران الضخمة. هناك تخبّط اقتصادي، وانهيار اجتماعي، وأزمة مالية. هناك أيضًا انتخابات، ووعود زائفة. هذا يوحي بأنّ هناك ما يعتمل في الصدور. باختصار، المدينة تنتظر وقوع كارثة.
خلال عمله، يتعرّض آرثر فْلِك للضرب والمهانة والإذلال، بسبب ما يحمله تاريخ مهنته من احتقار واستضعاف واستهانة، من أناسٍ كثيرين. هناك أيضًا ضغوط المهنة، والصعوبات الحياتية والمجتمعية، بالإضافة إلى المشاكل المرضية. هذا كلّه يُمهِّد لتحوّلات كارثية ستطرأ على الشخصية، وستفجرها في الجميع.
في أحداث الفيلم إسقاطات على الراهن الأميركي، تتناول الفوضى والعنف، اللذين ربما يكونان المقابل العادل في مجتمع غير مبال، كالمجتمع الأميركي، أو غيره من المجتمعات. هناك بعض المباشرة، خصوصًا مع قرب انتهاء الفيلم. لكن، ليس كلّ مُباشر سلبيًا. أحيانًا، تكون المباشرة مطلوبة بعض الشيء.
من الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يسحب تود فيليبس شخصية الجوكر إلى أرضية أخرى، لا تنفصل عما سبق. صحيح أنه لا يربط ربطًا حتميًا بين المرض العقلي، أو الفقر والبؤس والشقاء، والجنوح إلى القتل واقتراف الجريمة. لكن ما يسوقه من نكبات تحدث مع آرثر فْلِك، ولعلّها تحلّ بأي فرد آخر يعيش في ظروف مماثلة، يُمكن أنْ تتطابق نتيجتها تمامًا مع ما سلكه الجوكر وانتهى إليه.
"هل أنا فقط من أصابني الخبل، أو المدينة برمّتها؟". يسأل فْلِك الأخصائية الاجتماعية (شارون واشنطن)، فتجيبه ـ بعد إخباره أنّه، نظرًا إلى قلّة الأموال، لن يمكنه صرف مستحقّاته من الأدوية، الموصوفة له بعد خروجه من المستشفى - بأنّ المدينة "جُنّ جنونها"، وبأنّ هذه الأيام تحديدًا عصيبة على الجميع. سؤال كهذا يعني أن الشخصية ليست مريضة كليًا، وغير منفصلة تمامًا عما يدور حولها من خبل. لكنها، في الوقت نفسه، تعاني اغترابًا عن المجتمع، وعمن حولها. فعلاقة آرثر قاصرة على والدته المُسنّة المريضة، بيني (فرانسيس كونروي)، وعلى زملاء العمل، الذين بالكاد يتبادل الكلام معهم. الأم العزباء صوفي (زازي بيتز)، جارته في البناية، يتخيّل أنّ له علاقة غرامية بها. إلى ذلك، يتخيّل أنّ له علاقة بموراي فرانكلين (روبرت دي نيرو)، المُقدّم التلفزيوني الكوميدي الشهير، الذي يحلم بأنْ يستضيفه يومًا ما في برنامجه، ويقدّمه إلى الجمهور كفنان كوميدي. أو ربما يقدّم برنامجًا مشهورًا مثله.
يصف آرثر فْلِك حياته هكذا: "ظننتُ دائمًا أنّ حياتي تراجيديا، لكنّي أدركتُ الآن أنها ليست سوى كوميديا سخيفة". قبل إدراكه هذا، تنكشف رغبته الصادقة في عيش حياة بسيطة عادية. فأقصى طموح له أنْ يكون "كوميديانًا"، وإنْ في حانة. سلوكه مُسالم للغاية. مُحبّ للجميع. يحثّ من حوله على الضحك والابتسام، وتحمّل الآلام. حتى عندما تعرَّضَ له بعض الصبية، وضربوه وسرقوا منه لافتته، لم يعترض عندما حَسَم صاحب العمل ثمنها من أجره الزهيد. قبوله المسدس من زميله في العمل لحماية نفسه، لم يهتمّ به كثيرًا، ولم يكترث باستخدامه. لكن لحظة الانفجار أو التحوّل تتمثّل بهجوم ثلاثة حمقى مخمورين عليه في المترو، كادوا يفتكون به، فاضطر إلى استخدامه.
كان يُمكن للحادثة أنْ تمرّ، فوجهه مصبوغٌ بمكياج المهرّج، ولن يتعرّف عليه أحد. عربة المترو خالية تقريبًا. لكن تكالب الأحداث المأسوية غير المتوقّعة هدمت حياته، الهشّة أساسًا، ما دفعه إلى ارتكاب جرائم إضافية. لم يتورّع عن "الأخذ بالثأر" من جميع من جرحه يومًا، بكلمة أو كذبة أو إهانة، وممن دمَّرَ حياته، بمن فيهم والدته، التي اتضح أنّها ليست والدته، وحتى محبوبه ومعشوقه موراي فرانكلين، الذي استضافه فعليًا في برنامجه المسائيّ.
"جوكر" مليء بالعمق والإثارة والتشويق. فيلم الرجل الواحد. ما يعيبه ربما، رغم قوة السيناريو والشخصية، أنّه لو لم يؤدِّ واكِن فينيكس الشخصية، لفَقَد بريقًا كثيرًا. أداءٌ فذّ، هو أبسط ما يمكن أن يوصف به تمثيل فينيكس، المتماهي بالشخصية، بطاقته كلّها، بما يملك من قدرات إبداعية. لذا، لم يكن صعبًا الشعور بآلام آرثر فْلِك وضعفه وغضبه بصدق، ولا أنْ يتجسّد الذهان بشكلٍ طبيعي ووحشي، وأنْ يُصدَّق هذا كلّه من دون أية مبالغة.
اقــرأ أيضاً
أبدع واكِن فينيكس في كلّ شيء: تغيير نبرات صوته، وانتقاله بين الضحك الهوسي والابتسام والحزن والغضب والانفعال، تسخيره أدواته كلّها لتجسيد الحالة المتقلّبة للشخصية، وتطوّرها المرضي المُتصاعد، إلى درجة أنْ ركضَه بغرابة كبيرة ورقصَه بحذائه الغريب المُقرقع، متميّزان للغاية. هناك أيضًا فقدانه لوزنه، فصار هزيلا جدًا، وبرزت ضلوعه بشكلٍ مُخيف، كإشارة إلى الحالة المتفاقمة من الفقر والبؤس والمرض. هناك أيضًا تلك الضحكة المجلجلة، الصادرة من أعماق صدره، والتي تنتهي باختناق وكبح للدموع الطافرة من العينين. أداء شخصية كهذه لا يتمكّن منه إلاّ ممثل بقيمة فينيكس. بهذا، يؤكد الممثل، إلى الآن على الأقلّ، أنّه سيكون صاحب "أوسكار" أفضل تمثيل، في النسخة الـ92 لتوزيع الجوائز، في 9 فبراير/شباط 2019، بعد ترشّحه في هذه الفئة 3 مرات سابقًا.
في "جوكر" ـ الفائزة بجائزة "الأسد الذهبي" في الدورة الـ76 لـ"مهرجان فينسيا السينمائي الدولي" ـ يتعمّد المخرج تود فيليبس أخذ لقطات مقرّبة وطويلة لوجه الجوكر، أو آرثر فْلِك (واكِن فينيكس). للأمر مغزاه، بالتأكيد. يتجاوز فيليبس استعراض الحزن أو الشقاء أو البؤس في حياة أحد المهرّجين إلى ما هو أبعد وأعمق. لكنه، في النهاية، يلعب على ثنائية الوجه والقناع، والحقيقي والزائف، وما يظهر على السطح، وما يكمن في الأعماق.
على السطح، تدور الأحداث في إحدى المدن الأميركية، الشبيهة بنيويورك، في ثمانينيات القرن الماضي. تعاني المدينة حالة بطالة، وإضراب عمّال النظافة عن العمل، ما أدّى إلى انتشار القمامة والفئران الضخمة. هناك تخبّط اقتصادي، وانهيار اجتماعي، وأزمة مالية. هناك أيضًا انتخابات، ووعود زائفة. هذا يوحي بأنّ هناك ما يعتمل في الصدور. باختصار، المدينة تنتظر وقوع كارثة.
خلال عمله، يتعرّض آرثر فْلِك للضرب والمهانة والإذلال، بسبب ما يحمله تاريخ مهنته من احتقار واستضعاف واستهانة، من أناسٍ كثيرين. هناك أيضًا ضغوط المهنة، والصعوبات الحياتية والمجتمعية، بالإضافة إلى المشاكل المرضية. هذا كلّه يُمهِّد لتحوّلات كارثية ستطرأ على الشخصية، وستفجرها في الجميع.
في أحداث الفيلم إسقاطات على الراهن الأميركي، تتناول الفوضى والعنف، اللذين ربما يكونان المقابل العادل في مجتمع غير مبال، كالمجتمع الأميركي، أو غيره من المجتمعات. هناك بعض المباشرة، خصوصًا مع قرب انتهاء الفيلم. لكن، ليس كلّ مُباشر سلبيًا. أحيانًا، تكون المباشرة مطلوبة بعض الشيء.
من الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يسحب تود فيليبس شخصية الجوكر إلى أرضية أخرى، لا تنفصل عما سبق. صحيح أنه لا يربط ربطًا حتميًا بين المرض العقلي، أو الفقر والبؤس والشقاء، والجنوح إلى القتل واقتراف الجريمة. لكن ما يسوقه من نكبات تحدث مع آرثر فْلِك، ولعلّها تحلّ بأي فرد آخر يعيش في ظروف مماثلة، يُمكن أنْ تتطابق نتيجتها تمامًا مع ما سلكه الجوكر وانتهى إليه.
"هل أنا فقط من أصابني الخبل، أو المدينة برمّتها؟". يسأل فْلِك الأخصائية الاجتماعية (شارون واشنطن)، فتجيبه ـ بعد إخباره أنّه، نظرًا إلى قلّة الأموال، لن يمكنه صرف مستحقّاته من الأدوية، الموصوفة له بعد خروجه من المستشفى - بأنّ المدينة "جُنّ جنونها"، وبأنّ هذه الأيام تحديدًا عصيبة على الجميع. سؤال كهذا يعني أن الشخصية ليست مريضة كليًا، وغير منفصلة تمامًا عما يدور حولها من خبل. لكنها، في الوقت نفسه، تعاني اغترابًا عن المجتمع، وعمن حولها. فعلاقة آرثر قاصرة على والدته المُسنّة المريضة، بيني (فرانسيس كونروي)، وعلى زملاء العمل، الذين بالكاد يتبادل الكلام معهم. الأم العزباء صوفي (زازي بيتز)، جارته في البناية، يتخيّل أنّ له علاقة غرامية بها. إلى ذلك، يتخيّل أنّ له علاقة بموراي فرانكلين (روبرت دي نيرو)، المُقدّم التلفزيوني الكوميدي الشهير، الذي يحلم بأنْ يستضيفه يومًا ما في برنامجه، ويقدّمه إلى الجمهور كفنان كوميدي. أو ربما يقدّم برنامجًا مشهورًا مثله.
يصف آرثر فْلِك حياته هكذا: "ظننتُ دائمًا أنّ حياتي تراجيديا، لكنّي أدركتُ الآن أنها ليست سوى كوميديا سخيفة". قبل إدراكه هذا، تنكشف رغبته الصادقة في عيش حياة بسيطة عادية. فأقصى طموح له أنْ يكون "كوميديانًا"، وإنْ في حانة. سلوكه مُسالم للغاية. مُحبّ للجميع. يحثّ من حوله على الضحك والابتسام، وتحمّل الآلام. حتى عندما تعرَّضَ له بعض الصبية، وضربوه وسرقوا منه لافتته، لم يعترض عندما حَسَم صاحب العمل ثمنها من أجره الزهيد. قبوله المسدس من زميله في العمل لحماية نفسه، لم يهتمّ به كثيرًا، ولم يكترث باستخدامه. لكن لحظة الانفجار أو التحوّل تتمثّل بهجوم ثلاثة حمقى مخمورين عليه في المترو، كادوا يفتكون به، فاضطر إلى استخدامه.
كان يُمكن للحادثة أنْ تمرّ، فوجهه مصبوغٌ بمكياج المهرّج، ولن يتعرّف عليه أحد. عربة المترو خالية تقريبًا. لكن تكالب الأحداث المأسوية غير المتوقّعة هدمت حياته، الهشّة أساسًا، ما دفعه إلى ارتكاب جرائم إضافية. لم يتورّع عن "الأخذ بالثأر" من جميع من جرحه يومًا، بكلمة أو كذبة أو إهانة، وممن دمَّرَ حياته، بمن فيهم والدته، التي اتضح أنّها ليست والدته، وحتى محبوبه ومعشوقه موراي فرانكلين، الذي استضافه فعليًا في برنامجه المسائيّ.
"جوكر" مليء بالعمق والإثارة والتشويق. فيلم الرجل الواحد. ما يعيبه ربما، رغم قوة السيناريو والشخصية، أنّه لو لم يؤدِّ واكِن فينيكس الشخصية، لفَقَد بريقًا كثيرًا. أداءٌ فذّ، هو أبسط ما يمكن أن يوصف به تمثيل فينيكس، المتماهي بالشخصية، بطاقته كلّها، بما يملك من قدرات إبداعية. لذا، لم يكن صعبًا الشعور بآلام آرثر فْلِك وضعفه وغضبه بصدق، ولا أنْ يتجسّد الذهان بشكلٍ طبيعي ووحشي، وأنْ يُصدَّق هذا كلّه من دون أية مبالغة.