يستحيل التغاضي عن التأثيرات الجمّة للتقلّبات الكبيرة، التي تعيشها بلدانٌ عربية عديدة، منذ 7 أعوامٍ، مع قيام الشاب التونسي محمد البوعزيزي (1984) بإشعال النار في جسده، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، أمام مقرّ "ولاية سيدي بوزيد" (وسط تونس)، "احتجاجاً على مصادرة البلدية عربته الخاصّة ببيع الخضار والفواكه" (توفيّ في 4 يناير/ كانون الثاني 2011). انقلابات كهذه سببٌ لتغييرات مختلفة، بعضها سلميّ كما في تونس ومصر (قبل البدء بسلسلة انقلابات مضادة، لاستعادة أنماط حكم باهتة وقديمة وقمعية)، وبعضها الآخر عنفيّ وتدميري ووحشيّ، كما هو حاصلٌ في سورية، مثلاً.
والتأثيرات كثيرة، تتوزّع على السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام وفنون التواصل والنتاج الثقافي، كما على أشكال العيش اليومي. وهذا غير بعيد عن الصورة، الفوتوغرافية والبصرية والمتحركة، ما يعني أن السينما، بأنواعها العديدة، حاضرةٌ، وإنْ في لحظات لاحقة لاندلاع ثورات عفوية وسلمية وشعبية، الغارقة في عنف سلطات ووحشية متحكّمين بالبلاد والناس؛ علماً أن التقاط الراهن بكاميرات صغيرة (بعضها عبر أجهزة الهواتف الخلوية) متمكّن من تأريخ اللحظة وأرشفتها، وتحصين الحدث من كل اندثار ممكن.
كلامٌ كهذا، وإنْ يكن مُكرّراً ومعروفاً، يأتي في سياق مشاهدةٍ سينمائية لفيلمين، مُشاركين في المسابقة الرسمية للدورة الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، والحاصلين على جائزتيّ التمثيل: "إنسرياتد" للبلجيكي فيليب فان لِووي (1954)، و"تونس الليل" للتونسي إلياس بكّار (1971). وإذْ يغوص الأول (جائزة أفضل ممثلة للّبنانية ديامان أبو عبّود) في قلب الصراع العسكري داخل سورية، من دون تحديد مكانٍ أو زمان واضحين، وعبر سرد مقتطفات من يوميات عائلة محاصرة في منزلها؛ فإن الثاني (جائزة أفضل ممثل لروؤف بن عمر) يتابع أحوال البلد وناسه، في لحظة تحوّل ملتبس، يُعانيه أناسٌ كثيرون في ظلّ انعدام رؤية واضحة لمآلٍ ومسارات وتحوّلاتٍ.
الغوص في أعماق الصراع العنفيّ في سورية، الذي (الصراع) لن يظهر أبداً على الشاشة الكبيرة بشكل مباشر أو واضح أو مُحدَّد، لن يختلف كثيراً عن الغوص في مآزق أفرادٍ يواجهون أقداراً غامضة، ويُدْفَعون دفعاً إلى مصائر مرتبكة، ويوضعون في أطرٍ منغلقة على نفسها، في محاولةٍ لتدميرهم. لكن الابتعاد عن خطابية المقاربة الدرامية للحالة السورية، في "إنسرياتد"، تتناقض كلّياً مع نصٍّ يحمل خطاباً وطنياً أو إنسانياً أو أخلاقياً حادّاً ومباشراً، رغم جمالية النواة الدرامية الأصليّة، المرتكزة على تفكِّك عائلي (والدان وابنة وشقيقها) ينتهي في تعاضدٍ بين أفراد تلك العائلة، كإشارة إلى أولوية التماسك في مواجهة الانهيارات والمصائب.
المفهوم الدرامي لبناء شخصيات "إنسرياتد" ينبثق من العائلة الواحدة أيضاً: جدّ وأولاد وأحفاد وأقارب، ينتمون إلى أجيال مختلفة، ويُقيمون معاً في منزلٍ قائمٍ وسط المعارك، التي تُسمع أصواتها من دون رؤية مشاهدها، والتي تظهر ـ بعنفٍ داخلي، وقسوة ذاتية، وارتباكات نفسية وروحية ـ في تصرّفٍ أو حركة أو تعبير صامت أو كلامٍ متوتر أو انفعالٍ مضطرب. والتفكّك داخل العائلة التونسية يكاد يعثر على رديفٍ له داخل العائلة السورية، تماماً كالمحاولات الدؤوبة لمنع الانهيار من أن يُصبح كاملاً، أو لإيقاف النزيف قبل الموت النهائيّ.
أهمية النصّ متساوية في الفيلمين: كيفية مواجهة الموت والأكاذيب والحِيَل من أجل عيشٍ وانتصارٍ ما للحياة (إنسرياتد)، في مقابل كيفية مواجهة الخراب المعتمل داخل العائلة وخارجها، كما في محيطها القريب جداً، والمساحات الأوسع (تونس الليل). الابتعاد عن تحديدات تعكس بيئات أو جماعات أو حالات إنسانية ـ اجتماعية معيّنة في سورية، يُقابله ابتعاد عن اختزال الحدث الدرامي التونسي بزمنٍ مفتوح، أو بأمكنة عديدة.
لكن الفرق واضحٌ في أسلوب المعالجة، إذْ تتماسك البنى الدرامية والسردية والفنية في "إنسرياتد"، الذي يُقدِّم شخصياتٍ تتحرّك داخل غرفٍ وممرّات تبدو كأنها دهاليز أو متاهاتٍ لا تنتهي، والذي يعكس حِرفية أدائية لدى غالبية الممثلين (الفلسطينية هيام عباس، واللبنانية ديامان أبو عبّود، والفرنسية جولييت نافيس، والسوري محسن عباس، وغيرهم)، والذي يرتكز على موقفٍ إنسانيّ، لتفكيك الذات وانفعالاتها إزاء مأزقٍ يأخذها إلى حتفها أو تصدّعاتها أو انهياراتها. في حين أن لقطات عديدة في "تونس الليل" طويلة ومملّة، وتفتقد مبرّرها الدرامي، في ظلّ طغيان كلامٍ نضاليّ مباشر، وغير صالحٍ لمتطلّبات السرد الدرامي السينمائيّ، المتعلّق بأفرادٍ يعيشون بأشكالٍ مختلفة (الوالدة محجّبة، والوالد إذاعيّ مشهور يحتسي الخمرة في خمّارة يملكها مسيحي، والابن ملتزم دينياً لكنه منفضّ عن خطابية متطرّفة، والابنة مغنيّة تعاني ألم الاغتراب داخل العائلة وخارجها).
هذا كلّه لن يحول دون التنبّه إلى لمسات إنسانية "جميلة"، في "تونس الليل"، الروائيّ الطويل الأول لإلياس بكّار.
اقــرأ أيضاً
كلامٌ كهذا، وإنْ يكن مُكرّراً ومعروفاً، يأتي في سياق مشاهدةٍ سينمائية لفيلمين، مُشاركين في المسابقة الرسمية للدورة الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، والحاصلين على جائزتيّ التمثيل: "إنسرياتد" للبلجيكي فيليب فان لِووي (1954)، و"تونس الليل" للتونسي إلياس بكّار (1971). وإذْ يغوص الأول (جائزة أفضل ممثلة للّبنانية ديامان أبو عبّود) في قلب الصراع العسكري داخل سورية، من دون تحديد مكانٍ أو زمان واضحين، وعبر سرد مقتطفات من يوميات عائلة محاصرة في منزلها؛ فإن الثاني (جائزة أفضل ممثل لروؤف بن عمر) يتابع أحوال البلد وناسه، في لحظة تحوّل ملتبس، يُعانيه أناسٌ كثيرون في ظلّ انعدام رؤية واضحة لمآلٍ ومسارات وتحوّلاتٍ.
الغوص في أعماق الصراع العنفيّ في سورية، الذي (الصراع) لن يظهر أبداً على الشاشة الكبيرة بشكل مباشر أو واضح أو مُحدَّد، لن يختلف كثيراً عن الغوص في مآزق أفرادٍ يواجهون أقداراً غامضة، ويُدْفَعون دفعاً إلى مصائر مرتبكة، ويوضعون في أطرٍ منغلقة على نفسها، في محاولةٍ لتدميرهم. لكن الابتعاد عن خطابية المقاربة الدرامية للحالة السورية، في "إنسرياتد"، تتناقض كلّياً مع نصٍّ يحمل خطاباً وطنياً أو إنسانياً أو أخلاقياً حادّاً ومباشراً، رغم جمالية النواة الدرامية الأصليّة، المرتكزة على تفكِّك عائلي (والدان وابنة وشقيقها) ينتهي في تعاضدٍ بين أفراد تلك العائلة، كإشارة إلى أولوية التماسك في مواجهة الانهيارات والمصائب.
المفهوم الدرامي لبناء شخصيات "إنسرياتد" ينبثق من العائلة الواحدة أيضاً: جدّ وأولاد وأحفاد وأقارب، ينتمون إلى أجيال مختلفة، ويُقيمون معاً في منزلٍ قائمٍ وسط المعارك، التي تُسمع أصواتها من دون رؤية مشاهدها، والتي تظهر ـ بعنفٍ داخلي، وقسوة ذاتية، وارتباكات نفسية وروحية ـ في تصرّفٍ أو حركة أو تعبير صامت أو كلامٍ متوتر أو انفعالٍ مضطرب. والتفكّك داخل العائلة التونسية يكاد يعثر على رديفٍ له داخل العائلة السورية، تماماً كالمحاولات الدؤوبة لمنع الانهيار من أن يُصبح كاملاً، أو لإيقاف النزيف قبل الموت النهائيّ.
أهمية النصّ متساوية في الفيلمين: كيفية مواجهة الموت والأكاذيب والحِيَل من أجل عيشٍ وانتصارٍ ما للحياة (إنسرياتد)، في مقابل كيفية مواجهة الخراب المعتمل داخل العائلة وخارجها، كما في محيطها القريب جداً، والمساحات الأوسع (تونس الليل). الابتعاد عن تحديدات تعكس بيئات أو جماعات أو حالات إنسانية ـ اجتماعية معيّنة في سورية، يُقابله ابتعاد عن اختزال الحدث الدرامي التونسي بزمنٍ مفتوح، أو بأمكنة عديدة.
لكن الفرق واضحٌ في أسلوب المعالجة، إذْ تتماسك البنى الدرامية والسردية والفنية في "إنسرياتد"، الذي يُقدِّم شخصياتٍ تتحرّك داخل غرفٍ وممرّات تبدو كأنها دهاليز أو متاهاتٍ لا تنتهي، والذي يعكس حِرفية أدائية لدى غالبية الممثلين (الفلسطينية هيام عباس، واللبنانية ديامان أبو عبّود، والفرنسية جولييت نافيس، والسوري محسن عباس، وغيرهم)، والذي يرتكز على موقفٍ إنسانيّ، لتفكيك الذات وانفعالاتها إزاء مأزقٍ يأخذها إلى حتفها أو تصدّعاتها أو انهياراتها. في حين أن لقطات عديدة في "تونس الليل" طويلة ومملّة، وتفتقد مبرّرها الدرامي، في ظلّ طغيان كلامٍ نضاليّ مباشر، وغير صالحٍ لمتطلّبات السرد الدرامي السينمائيّ، المتعلّق بأفرادٍ يعيشون بأشكالٍ مختلفة (الوالدة محجّبة، والوالد إذاعيّ مشهور يحتسي الخمرة في خمّارة يملكها مسيحي، والابن ملتزم دينياً لكنه منفضّ عن خطابية متطرّفة، والابنة مغنيّة تعاني ألم الاغتراب داخل العائلة وخارجها).
هذا كلّه لن يحول دون التنبّه إلى لمسات إنسانية "جميلة"، في "تونس الليل"، الروائيّ الطويل الأول لإلياس بكّار.