كان هذا صوت المخرج السوري الفوز طنجور (مواليد 1975)، وهو يروي حصته من الذاكرة، مع سوريين آخرين، في فيلمه الوثائقي "ذاكرة باللون الخاكي".
فارق والده الحياة عام 1989، وكان عمر الفوز وقتذاك أربعة عشر عاماً. وبعدها بسنوات غادر الشاب إلى مولدوفا لدراسة السينما. في كل ما يرويه أو يترك الآخرين يروونه عبر أفلامه، يظل هاجسه الأشد وضوحاً: "باسم أي قيمة مهما علت، يمكن للإنسان أن يعتاد على الإهانة؟".
هل الخاكي (الترابي الزيتي) معاب لقماشه وطبيعته اللونية، أو لوظيفته الوطنية؟ لم يقل هذا والده الذي انسحب من جبهة وطنية وتقدمية "لصاحبها حافظ الأسد" كما كان يتندر السوريون، إذا أتيحت لهم الفرصة، ولم يقله ابنه المخرج السينمائي، صاحب "شمس صغيرة" و"بارودة خشب" و"دمشق سيمفونية مدينة".
فما الذي يحكيه الفوز طنجور في لقائه "العربي الجديد"؟
حين غادرتُ إلى مولدوفا، حملتُ معي وعدي لأبي بأن أكون وفياً لكل ما أعمله. في حقيبتي مجموعة قصصية للكاتب إبراهيم صموئيل "رائحة الخطو الثقيل" وفي جيبي نقود قليلة، هي ثمن سوار ذهبي باعته أمي.
أنهيت دراستي بجامعة الفنون البصرية، قسم الإخراج السينمائي 2004. عدت إلى سورية، وكلي طاقة وحماس وأحلام، لتحقيق أفلام سينمائية. ولكن بعد فترة قصيرة فقط، بدأت أدرك أن كل ذلك كان مجرد أوهام.
وجدتُ السقف هذه المرة واطئاً أكثر، ليس سقف العمل السياسي وحسب، وإنما الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي. كانت الحرية الوحيدة لم تزل هي نفسها في اختيار نوع العقوبة.
فوضى كل شيء
وجدتُ فوضى في كل شيء: في الألوان، والحواس، والذاكرة، والتاريخ، وشكل المدينة، والأضواء والأغاني. في المضمون، في الرحيل، في النسيان، حتى في النسبة المئوية للكحول! كأن الفوضى كانت تعيد ترتيبنا من جديد.
المؤسسة العامة للسينما - كغيرها من مؤسسات الدولة- غير مكترثة بصنع أفلام سينمائية، وإنما فقط بصرف الميزانيات المخصصة لها بمافيوية وغباء.
مخرجان أو ثلاثة من أصحاب الواسطات كانوا يعملون دون توقف أفلاماً، في معظمها لا طعم لها ولا رائحة تشبه أصحابها فقط والأغلبية يجلسون دون عمل، يراقبون ويموتون هماً.
المهم، استطعتُ أن أصنع فيلماً سينمائياً قصيراً واحداً (شمس صغيرة) سنة 2007، ولم يعرض إلا بعد حذف عدة مشاهد أساسية منه، بحجة أنها تحمل إشارات قوية ضد النظام. كما حُذفت قصيدة لمحمد الماغوط يقولها الأب الصحافي في الفيلم (فارس الحلو).
كانت تلك التجربة مفصلية في حياتي المهنية، إذ مُنعت بعدها من العمل مخرجاً داخل المؤسسة، وبدأ مشوار الفيلم الوثائقي، وكان أول فيلم تسجيلي لي بعنوان "سينما بدون سينما" 2008، والذي يتناول واقع السينما السورية المتردي على مستوى الإنتاج والصالة والمشاهد.
أريدك أن تعلق على عبارة ابراهيم صموئيل في فيلمك، حين قال عن دمشق "دمي مركب من ريحة المازوت اللي فيها".
أنا مثله أيضاً. كثرٌ من السوريين يشاركونني الرأي. وهنا أقول: إن الابتعاد الحقيقي عن الوطن جعلني أفتش عنه كل مرة في ذاكرتي من خلال التفاصيل التي عشتها وتقاسمتها مع الآخرين.
سافرت وأنا أحمل جواز سفر أزرق، طبع عليه نسر أصفر باهت، بليت أطرافه لكثرة السفر والترحال، وبداخله صور شفافة لنهر العاصي، وقلعة حلب، والجامع الأموي. أوطاننا تشبه الوهم يا صديقي. إنها سراب!
كُلّنا شركاء في الوطن، وفي قنصه، وقتله، ودفنه، والتكبير له، والبكاء من أجله، والصراخ عليه، ثم الجلوس، والحنين إليه.
رغم ذلك تجدني، أقف كل مساء على ناصية الفيسبوك كمتشرد عتيق أبحث عن تاكسي أجرة، بوست طائر، يوصلني إلى السّلمية، لأسلم على أمي وإخوتي وبعض الأصدقاء. لا أجد سوى زر أبله ساكن، لا يشبه الحب بشيء. تنط إصبعي كأرنب غصباً عني، وتكبس على ذلك "اللّايك" الموجود في أسفل صورة بائسة لمدينتي.. نزّلها أحدهم ونسيها هناك.
سردية "ذاكرة بلون الخاكي" سجلتها في 2016. ما الذي يهدد هذه السردية بعد ما نراه من متغيرات؟
كنت أرغب فقط في حكاية القصص البسيطة التي عشناها معا كسوريين لسنوات طويلة، والتي شكلت ذاكرتنا بلونها الخاكي! وشكلت وعينا خلال سنوات الخوف والاستبداد، في ظل نظام ديكتاتوري حكم البلد بالحديد والنار لنصف قرن.
لا أصنع الأفلام لكي أجيب عن الأسئلة، أو أن أطرح حلولاً، أبداً، وإنما لأسأل. كل ما أعجز عن الإجابة عنه في الحياة أحاول البحث عنه مع الآخرين في الأفلام. رغبت في صنع فيلم يدفع إلى التأمل في الواقع الذي نعيشه.
عندما ثار السوريون في 2011 كانت تلك ثورة كرامة، وكانوا ينادون ببلد حر ديمقراطي، بدولة مؤسسات وقانون، عدالة ومساواة. هذا جعلني أنحاز بوصفي فناناً وإنساناً مع مطالب هذا الشعب المقهور والمسحوق. موقف الفنان هنا مبدئي وأخلاقي بمناصرة الإنسانية والحق أمام القمع والهمجية والتسلط.
بالتأكيد، متغيرات كثيرة ودراماتيكية طرأت خلال السنوات الماضية على الواقع السوري، ولا أعرف أصلاً كيف يمكن أن ينتهي كل هذا الجنون، ولكنني أعتقد مثل باقي الشخصيات في الفيلم بأن السوريين الذين دفعوا دماءهم وحياتهم ثمناً لثورتهم وحريتهم وكرامتهم، لن يقبلوا في المستقبل أن يحكمهم لون واحد فقط، لا الخاكي ولا أي لون واحد آخر. لم يتغير أي شيء بين 2016 عند إنجاز الفيلم وبين الآن.
فيلمك "رحلة في الزمن الصعب"، المنتظر عرضه قريباً هو حول الصحافي السوري نجيب الريس، لماذا اخترت هذه الشخصية؟
بالإضافة إلى أنه بورتريه عن الريس، الصحافي الوطني والثائر المتمرد، الفيلم أيضاً إعادة قراءة للتاريخ السوري، ومقاربة ما يجري الآن بذلك الزمان، حين كانت سورية تحت الانتداب الفرنسي.
خذ ما يقوله يقول الريس في إحدى افتتاحياته: "أما دمشق التي خُربت بيوتها في عهد صبحي بركات (سياسي سوري اتهمه الدمشقيون بتأييد الفرنسيين لقصف دمشق خلال الثورة السورية الكبرى)، فإن أطلالها الصامتة هي التي تبرق بالعزاء كما تبرق الثواكل إلى قتلة أولادهن. إن الأطلال المحترقة في دمشق وتلك القبور المنتشرة في الغوطة هي التي وحدها تمثل دمشق وأفضل من في دمشق. وإن حفنة من تراب الميدان والغوطة، ذلك التراب الذي امتزج بدم الشباب الغالي لن تسمح أن تطأها قدم ابن بركات، إلا إذا نسي الفرنسيون ذكرى قتلاهم ومصارع رجالهم".
تخيل كيف يمكن إسقاط ذلك على ما يجري الآن ليس في الميدان والغوطة فحسب، بل في سورية كلها.
كما أن الفيلم تقاطع لسير ذاتية بين مجموعة من الشخصيات السورية، كالصحافي رياض الريس، والصحافية سعاد جروس صاحبة كتاب "سورية زمان نجيب الريس" والباحث سلام كواكبي والكاتب نشوان أتاسي.
هو إذاً محاولة أرشفة تاريخ يضيع من بين أيدينا، ويتلاشى سريعاً في الذاكرة المعطوبة، ومحاولة لفهم ما يجري اليوم، ولكن من خلال فهم التاريخ أولاً.
هناك تدابير للفيلم الوثائقي، لكن المصادفات تلعب دوراً. هل تحولت وجهة فيلم لك بسبب مصادفة؟
نعم، المصادفات يمكن أن تغير مسيرة الفيلم، وعلى المخرج أن يبقى متيقظاً دوماً لأي تغيير، لأن القدرة على التغيير تُحفز المخيلة وتجلب الإبداع أيضاً.
قبل البدء بفيلم "ذاكرة باللون الخاكي"، كنت أعرف أن الاقتراب من الموضوع السوري ليس سهلاً. فهناك الكثير من الأعمال التي تناولت هذا الموضوع. كما أن العالم يراقب ما يحدث في سورية على شاشات التلفزيون. المهمة صعبة إذاً.
كنت وقتها أعيش في بيروت وبدأت بكتابة الخطوط العريضة، والأفكار، والمحاور الرئيسية، والشخصيات المحتملة. وبعد أكثر من تسعة أشهر وصلت إلى مخطط شبه نهائي. ولكنني كنت أشعر بأن ذلك ليس ما أردته تماماً.
بعد فترة قصيرة قررت السفر إلى أوروبا مع عائلتي لأسباب كثيرة، واعتقدت وقتها أن المشروع قد توقف، ولكن إصرار المنتج والصديق لؤي حفار على المضي قدماً، دفعني للعودة إلى الورق من جديد... لا أعرف ما حصل، ولكني بدأت أعيد صياغة كل شيء من الصفر، غيرتُ النص بالكامل.
كتبت تماماً ما كنت أحسه وأرغب في قوله، بُنية الفيلم السردية، شكله الفني، والنصوص النثرية التي قرأتها في الفيلم، ثم شخصية الطفل.
بمعنى آخر، بدأت أنطلق من الذاتي، من ذاكرتي مؤلفاً وصانعاً للفيلم، والعمل على نسج كل ذلك مع الذاكرة الجمعية للسوريين، بما تشاركناه خلال نصف قرن في مملكة الصمت.
كان سفري مع عائلتي إلى أوروبا والعيش لاجئاً، مفصليَين وحاسمَين في تغيير شكل ومضمون الفيلم بالكامل.
إن تجربة اللجوء -هذا المنفى البارد- مريرة على الصعيد النفسي والإنساني. كان يجب أن أقاوم كل ذلك من خلال الفيلم. أتصدى للموت من خلال الأفلام التي أصنعها، أتصدى للألم، للقسوة، للاغتراب، وربما للحنين. هنا السينما تصبح فعل مقاومة وتحد أمام سطوة الحياة للنجاة بالنفس، للنجاة بالذاكرة أمام النسيان.
الأفلام الوثائقية شخوصها لا يحكون قصتهم غالباً، إلا وهم جالسون على مقاعد. لماذا لا يمشي الشخص إذا كان قادراً على المشي ويحكي؟
بالطبع، يمكن أن تتكلم الشخصيات في الفيلم التسجيلي أثناء الحركة أيضاً، وليس فقط أثناء الجلوس. ولكنني أعتقد أن الإنسان يكون أكثر تركيزاً على سرد قصصه والكلام عن نفسه أثناء الجلوس، خاصة عندما يكون أقرب إلى البوح الحقيقي والذي يأتي من القلب مباشرة.
من الناحية الدرامية، أؤمن بأن أهم ما في الأمر هو وجه الشخص الذي يتكلم: تعابير وجهه، حركة العينين، الشفتان، وبالتالي القدرة على الغوص داخله، وسبر مكنوناته من خلال عدسة الكاميرا ونقل كل ذلك بصدق إلى المشاهد.
بالنسبة لي، فإن الصدق (العيون تحمل الحقيقة) هو المعيار الأساسي في السينما التسجيلية. ففي السينما الروائية يُبنى كل شيء، ويعاد خلقه من جديد ليأتي على صورة الواقع، ولكن من وجهة نظر المؤلف، الذي يبني عالمه كما يريد، كل ما يتعلق بسرد الحكاية، أو كل ما يلزم لقولها، الضوء وتدرجاته، حركات الكاميرا، لعب الممثل وحركته في الكادر، والديكورات.
كلها تأتي لخلق شكل ومضمون الحكاية، وأنا أتعامل مع الفيلم التسجيلي كأنه فيلم روائي، فأعيد بناء كل شيء من جديد، مع ضرورة الحفاظ على الصدق، وقول الحقيقة.