شخصيتان، تختلف إحداهما عن الأخرى في المزاج والسلوك والمعجم، تقومان برحلة بحث سريالي عن عدوّ في فضاء صحراوي لا نهائي، في "أبو ليلى" (2019) للجزائري أمين سيدي بومدين (مواليد باريس، 1982)، المُشارك في "أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي. يُمثِّل فيه لياس سالم وسليمان بن واري، الذي عمل في المسرح، ما أتاح له قوّة حضور أمام الكاميرا، مع وجه مُعبِّر، وحوارات موجزة.
تتْبع الكاميرا شخصيتين في قفارٍ لا نهائية: طيّب وقاسٍ، حسّاس (أنثوي؟) ووحش مُسلّح. يحاول الوحش مُساعدة الحسّاس، الذي تعطّلت لديه حاسة التمييز بين الأزمنة. بذلك، يركّز "أبو ليلى" على شخصية مهزوزة، وعلى معاناة روح معذّبة. شخصية متردّدة ذات أحلامٍ سوداء دموية.
يَعرض "أبو ليلى" محاولة شخصيةٍ مجروحةٍ تجَاوزَ تجربتها المريرة، والعيش مجدّداً. تعرض الكاميرا روح الشخصية، لا وجهها فقط. يحفر الفيلم في شخصيّته الرئيسية بأقلّ ما يمكن من الـ"سكيتشات" الجانبية المُغرية، كلّما مرّت الشخصيتان من مكان يوجد فيه كومبارس ظرفاء. نادراً ما تترك الكاميرا الشخصية الرئيسية لتتبّع شخصيات ثانوية، كوميدية من فرط الغباء لا من فرط الظرف.
الفيلم إضاءة نفسية للمرحلة. شخصية رئيسية تعيش كوابيس استثنائية مستعارة من واقع الجزائر. من فرط اللحْم المنثور، صارت الحيوانات العاشبة لاحمة.
يسرد الفيلم هلوسات حسية هي مزيج من الحكمة والجنون. يختلط الواقع بالكوابيس في رحلة علاجية على درب وعْر. يتّجه اللابطل إلى المستقبل باسترجاع الماضي من دون "فلاش باك"، لأن اللابطل لا يزال يعيش أوجاع المجازر التي عاشها.
الماضي الدموي غرام جنون منح القصة عمقها، في بلد يبدو مستشفى كبيراً للمجانين. في هذا الخراب، هناك شخص لديه أولويات مرتبكة. يهتمّ بدفن ميت أكثر من انشغاله بإسعاف جريح يصدر عنه أنين. هذا العبث نتيجة شراسة دولة وعنف مجتمع، يعتبران أنّ رؤية طفل لدم الكبش في عيد الأضحى علامة شجاعة، ومن يخاف الدم يُشتَم ويُتَهم بالأنوثة.
اللابطل شخصية متردّدة، تحجم عن أنْ تُقاتل، إما لطيبتها أو لجُبنها. شخصية مأزومة، يفترسها ماضيها، وتتسكّع في فضاء مطلق. تُعمّق طوبوغرافية المكان هواجس الشخصيات المعزولة عن زحام الشعب.
"أبو ليلى" فيلمٌ عن جزائر منتصف تسعينيات القرن الماضي. بلد مساحته مهولة، تُصعِّب السيطرة الأمنية عليه. في كلّ منعطفٍ، هناك إرهابيّ ومصيبة يتربّصان. يعيش البلد أجواء الرعب. من لم يصبه الرصاص أنهكته الكوابيس. بذكر العشرية السوداء (200 ألف قتيل بين 1991 و2002)، يُمكن تحميل قراءة الفيلم ما لا يُحتمل. لكنّ الفيلم لا يُصوّر تلك المرحلة الدموية، بل يُكثّف نتائجها في حفنة صغيرة من الكوابيس المريرة، وحالة غثيان مزمنة تحرّض على التساؤل: كيف يُمكن تحمّل ماضٍ بالغ الدموية والمرارة؟ يصعب تجاهل آلام الماضي، القريب جداً. للتصالح معه (الماضي)، يجب تصفية الحساب، فأين العدو؟ يُبحَث عنه في الصحراء، بينما أفعاله تهاجم خيالات الشخصية المأزومة. الصديق الوحش يمضي إلى هدفه، مهما كان الثمن. يمضي في رحلة انتقام، أو رحلة لتحقيق العدالة.
تتقدّم الأحداث مصحوبة بموسيقى تصويرية مخدوشة، أشبه برنين وضجيج يخرجان من روح الشخصية. لسفر البحث عن العدو في هذا الفضاء فوائد على وعي سينمائي حادّ. تُطارد الكاميرا شخصيّتين في فضاءٍ صحراوي شاسع. بشكل عرضي، تتشكّل لوحات صفراوية، تنكسر فيها أشعة الشمس على الصخور وتلال الرمل. يُغيّر الظلُّ الإضاءة.
اتّخذ الإخراج منحى مينيمالياً. نجح الفيلم، ببطءٍ وبعناصر قليلة، في وضع المُشاهد في قلب جزائر التسعينيات الفائتة. فيلم على الطريق. رجلان يسافران صامِتَين تقريباً، في سيارة في منطقة صحراوية، لأكثر من 45 دقيقة قبل أوّل توقف. نادراً ما يتغيّر شيء. هذا يولّد الملل.
أيمكن لمتفرّج جزائري أنْ يتحمّل هذا؟
كلا. لكنّ المهرجانات، التي "يُقدّسها" الـ"سينيفيليون"، تُفضّل أفلاماً فيها شخصيات قليلة وإيقاع رتيب، ليصل المعنى بطيئاً إلى مُخيّلات أعضاء لجان التحكيم. هذه عيّنة أفلامٍ مبنية على سيناريوهات تنحت وتحذف بغرض التركيز على شخصية واحدة، لوقت طويل، للحفر في ذاتها. لهذا تأصيل فلسفي وبصري، فكثرة المعلومات تُرهق الوعي. يتجلّى ذلك في تقليل كمية الأجساد في الفضاء. أفلامٌ كثيرة اشتهرت لتَتبّعها شخصية واحدة طيلة ساعتين.
النصف الأول من "أبو ليلى" مملّ، على عكس نصفه الثاني، المُشوّق والأفضل، لأنّه يُفسّر ما سبقه. لكن، رغم عيوبه، كان الأول تمهيداً ضرورياً لإدخال المتفرّج إلى جمجمة الشخصية الرئيسية.
للسفر بحثاً عن العدو فوائد على نفسية الشخصيات. فالمسافة والعزلة علاج، على أمل استرجاع براءة صداقة منتهكة. لكن ما ضاع لا يُسترجع، وكلّ الأمل ألّا يتكرر ما جرى في الجزائر.
يَعرض "أبو ليلى" محاولة شخصيةٍ مجروحةٍ تجَاوزَ تجربتها المريرة، والعيش مجدّداً. تعرض الكاميرا روح الشخصية، لا وجهها فقط. يحفر الفيلم في شخصيّته الرئيسية بأقلّ ما يمكن من الـ"سكيتشات" الجانبية المُغرية، كلّما مرّت الشخصيتان من مكان يوجد فيه كومبارس ظرفاء. نادراً ما تترك الكاميرا الشخصية الرئيسية لتتبّع شخصيات ثانوية، كوميدية من فرط الغباء لا من فرط الظرف.
الفيلم إضاءة نفسية للمرحلة. شخصية رئيسية تعيش كوابيس استثنائية مستعارة من واقع الجزائر. من فرط اللحْم المنثور، صارت الحيوانات العاشبة لاحمة.
يسرد الفيلم هلوسات حسية هي مزيج من الحكمة والجنون. يختلط الواقع بالكوابيس في رحلة علاجية على درب وعْر. يتّجه اللابطل إلى المستقبل باسترجاع الماضي من دون "فلاش باك"، لأن اللابطل لا يزال يعيش أوجاع المجازر التي عاشها.
الماضي الدموي غرام جنون منح القصة عمقها، في بلد يبدو مستشفى كبيراً للمجانين. في هذا الخراب، هناك شخص لديه أولويات مرتبكة. يهتمّ بدفن ميت أكثر من انشغاله بإسعاف جريح يصدر عنه أنين. هذا العبث نتيجة شراسة دولة وعنف مجتمع، يعتبران أنّ رؤية طفل لدم الكبش في عيد الأضحى علامة شجاعة، ومن يخاف الدم يُشتَم ويُتَهم بالأنوثة.
اللابطل شخصية متردّدة، تحجم عن أنْ تُقاتل، إما لطيبتها أو لجُبنها. شخصية مأزومة، يفترسها ماضيها، وتتسكّع في فضاء مطلق. تُعمّق طوبوغرافية المكان هواجس الشخصيات المعزولة عن زحام الشعب.
"أبو ليلى" فيلمٌ عن جزائر منتصف تسعينيات القرن الماضي. بلد مساحته مهولة، تُصعِّب السيطرة الأمنية عليه. في كلّ منعطفٍ، هناك إرهابيّ ومصيبة يتربّصان. يعيش البلد أجواء الرعب. من لم يصبه الرصاص أنهكته الكوابيس. بذكر العشرية السوداء (200 ألف قتيل بين 1991 و2002)، يُمكن تحميل قراءة الفيلم ما لا يُحتمل. لكنّ الفيلم لا يُصوّر تلك المرحلة الدموية، بل يُكثّف نتائجها في حفنة صغيرة من الكوابيس المريرة، وحالة غثيان مزمنة تحرّض على التساؤل: كيف يُمكن تحمّل ماضٍ بالغ الدموية والمرارة؟ يصعب تجاهل آلام الماضي، القريب جداً. للتصالح معه (الماضي)، يجب تصفية الحساب، فأين العدو؟ يُبحَث عنه في الصحراء، بينما أفعاله تهاجم خيالات الشخصية المأزومة. الصديق الوحش يمضي إلى هدفه، مهما كان الثمن. يمضي في رحلة انتقام، أو رحلة لتحقيق العدالة.
تتقدّم الأحداث مصحوبة بموسيقى تصويرية مخدوشة، أشبه برنين وضجيج يخرجان من روح الشخصية. لسفر البحث عن العدو في هذا الفضاء فوائد على وعي سينمائي حادّ. تُطارد الكاميرا شخصيّتين في فضاءٍ صحراوي شاسع. بشكل عرضي، تتشكّل لوحات صفراوية، تنكسر فيها أشعة الشمس على الصخور وتلال الرمل. يُغيّر الظلُّ الإضاءة.
اتّخذ الإخراج منحى مينيمالياً. نجح الفيلم، ببطءٍ وبعناصر قليلة، في وضع المُشاهد في قلب جزائر التسعينيات الفائتة. فيلم على الطريق. رجلان يسافران صامِتَين تقريباً، في سيارة في منطقة صحراوية، لأكثر من 45 دقيقة قبل أوّل توقف. نادراً ما يتغيّر شيء. هذا يولّد الملل.
أيمكن لمتفرّج جزائري أنْ يتحمّل هذا؟
كلا. لكنّ المهرجانات، التي "يُقدّسها" الـ"سينيفيليون"، تُفضّل أفلاماً فيها شخصيات قليلة وإيقاع رتيب، ليصل المعنى بطيئاً إلى مُخيّلات أعضاء لجان التحكيم. هذه عيّنة أفلامٍ مبنية على سيناريوهات تنحت وتحذف بغرض التركيز على شخصية واحدة، لوقت طويل، للحفر في ذاتها. لهذا تأصيل فلسفي وبصري، فكثرة المعلومات تُرهق الوعي. يتجلّى ذلك في تقليل كمية الأجساد في الفضاء. أفلامٌ كثيرة اشتهرت لتَتبّعها شخصية واحدة طيلة ساعتين.
النصف الأول من "أبو ليلى" مملّ، على عكس نصفه الثاني، المُشوّق والأفضل، لأنّه يُفسّر ما سبقه. لكن، رغم عيوبه، كان الأول تمهيداً ضرورياً لإدخال المتفرّج إلى جمجمة الشخصية الرئيسية.
للسفر بحثاً عن العدو فوائد على نفسية الشخصيات. فالمسافة والعزلة علاج، على أمل استرجاع براءة صداقة منتهكة. لكن ما ضاع لا يُسترجع، وكلّ الأمل ألّا يتكرر ما جرى في الجزائر.