إنذارات جيش الاحتلال... سلاح في الحرب على اللبنانيين

17 نوفمبر 2024
يتداول اللبنانيون إنذارات الإخلاء عبر مجموعات "واتساب" (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استخدام إنذارات الإخلاء كأداة ترهيب: توثق التحقيقات استخدام إسرائيل لإنذارات الإخلاء كوسيلة للترهيب والتهجير القسري للبنانيين، حيث تكون الإنذارات مضللة وغير فعالة، مما يترك المدنيين في حالة ذعر دون ممرات آمنة.

- تأثير الإنذارات على الحياة اليومية: يعيش اللبنانيون في حالة تأهب مستمر بسبب الإنذارات المتكررة، مما يسبب قلقًا دائمًا ونزوحًا للعائلات، كما هو الحال مع مريم أبو طعام وزوجها اللذين يتناوبان على النوم لمراقبة الإنذارات.

- الخرق للقانون الدولي الإنساني: تُظهر التحقيقات أن الإنذارات الإسرائيلية تخرق مبادئ القانون الدولي الإنساني، حيث تُستخدم كوسيلة للتهجير القسري، مما يُعتبر جريمة حرب وفقًا للمحكمة الجنائية الدولية.

يوثق التحقيق كيف تستخدم إسرائيل، إنذارات الإخلاء سلاحاً في حربها على اللبنانيين، إذ تتسم بكونها مضللة وتتجاهل شروطاً مثل التوقيت المتناسب بين صدور التحذير والضربة المتوقعة، وتعمم مناطق الأهداف بدلاً من تحديدها.

- تتناوب الأربعينية اللبنانية مريم أبو طعام وزوجها على النوم منذ تكثيف وتصاعد وتيرة الغارات الإسرائيلية في 23 سبتمبر/أيلول الماضي، من أجل أن يظل أحدهما يقظا يراقب إنذارات جيش الاحتلال خوفا من أن يكون منزلهم بين أماكن الاستهداف، فليس أمامنا سوى أن "نبقي أعيننا على وسائل التواصل الاجتماعي كما هو حال بقية اللبنانيين، خشية صدور إنذار بقصف منطقتنا ونحن نيام"، تقول أبو طعام التي حزمت حقائب تتضمن ملابس وأغطية تكفي أسرتها، ووضعتها في السيارة تحسبا لمغادرة سريعة لمنزلهم في منطقة خلدة عند المدخل الجنوبي لمدينة بيروت.

ما تعيشه أبو طعام يعبر عن حالة، التأهب المستمر والرعب المتنامي، ونصائح الاستعداد للهجمات الإسرائيلية المفاجئة التي تضج بها مجموعات "واتساب" اللبنانية، والتي تحول اهتمامها إلى نشر الإنذارات بأقصى سرعة ممكنة لتصل إلى المشتركين الذين لا يملكون حسابات على منصة إكس التي يعلن جيش الاحتلال عبرها عن مناطق استهدافه، لكنها "غير فعالة ولم تحقق الهدف الأساسي منها وهو حماية المدنيين" كما تقول، مديرة مكتب منظمة هيومان رايتس ووتش في الشرق الأوسط، لما فقيه.

 

 

كيف تخرق إسرائيل شروط إنذارات الإخلاء؟

وجّه الاحتلال الإسرائيلي 47 إنذاراً إلى سكان الجنوب والضاحية الجنوبية والبقاع وبعض الأهداف في نطاق محافظة بيروت الكبرى، خلال الفترة الممتدة بين 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي و11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وطلب فيها إخلاء مناطق أو مبان حددها بلون أحمر على الخريطة والابتعاد عن المكان مسافة 500 متر، مذيلا إياها بعبارة موحدة: "كل من يكون بالقرب من عناصر حزب الله ومنشآته ووسائله القتالية يعرض حياته للخطر".

لكن هل كانت تلك الإنذارات حقيقية؟ تجيب فقيه بأنه حتى يكون الإنذار فعالاً، لا بد من أن يتضمن شروطا أساسية منها التوقيت المناسب وإعطاء المدنيين المهلة الكافية للإخلاء وتحديد ممرات آمنة مخصصة لهم، وهي قواعد أساسية تفتقدها الإنذارات الإسرائيلية التي صدر كثير منها في الليل، وفي كثير من الأحيان لم تتجاوز المدة الفاصلة بين الإنذار والاستهداف ثماني دقائق.

الصورة
إنذارات إسرائيلية مضللة للبنانيين (إكس)
تبين الخريطة اتساع مساحة التهديد المرفقة بإنذار الإخلاء الموجه لسكان منطقة الأوزاعي في بيروت (المصدر: إكس)

هذه المخالفات رصدها "العربي الجديد"، عبر وقائع الضربة الإسرائيلية التي استهدفت منطقة الأوزاعي الشعبية المحاذية للبحر قرب مدخل مدينة بيروت من الجهة الجنوبية، إذ وجّه العدو في 21 أكتوبر المنصرم إنذاراً عبر حساب أفيخاي أدرعي المتحدث باسم جيش الاحتلال، في الساعة 10:10 ليلاً، من أجل إخلاء مبنى في منحدر القارب ومنشآت محيطة به في الليلكي، بينما وقعت الضربة عند الساعة 10:30 أي أن المدة الزمنية الفاصلة بين الإنذار والاستهداف بلغت 20 دقيقة فقط. وهي مدة غير كافية خاصة أن منطقة الأوزاعي من أكثر المناطق شعبية واكتظاظاً، حتى شوارعها الرئيسية ضيقة ولا تتسع لأكثر من سيارتين، ولم تتم مراعاة الضعفاء من كبار السن وذوي الاحتياجات الذين يحتاجون وقتاً أطول للسير ونزول السلالم أو حتى العثور على وسيلة توصلهم إلى مكان آمن، كما يقول سكان المنطقة ومن بينهم الخمسيني أحمد شكر، الذي يصف المشهد قائلا :"الناس كانت تتحضر للنوم، وعندما صدر الإنذار ما لبث أن نزل الجميع إلى الطرقات بلا أحذية، ولم يأخذوا شيئا معهم، لأنهم باتوا على علم من خلال متابعتهم لمجموعات على "واتساب" أن المهلة بعد الإنذار غالبا ما تكون قصيرة جدا"، "لذلك كان مشهد هرب الأهالي جنونياً، ما قدرنا ناخذ معنا شي".

إنذارات الإخلاء الإسرائيلية أداة ترهيب وتهجير للبنانيين

ولم تتمكن الأربعينية زينب عبود المصابة بداء السرطان من مغادرة منزلها لدى إعلان الاحتلال عن عزمه استهداف الأوزاعي كونها لا تستطيع التحرك بمفردها، علما أنها كانت في تلك اللحظات مع ولديها الصغيرين، بينما زوجها خارج المنطقة، وقررت البقاء مسلمة أمرها لله، وتصف لحظة القصف الذي هزّ منزلها بأنها من أصعب اللحظات.

وتخضع إنذارات الإخلاء للقانون الدولي الإنساني الذي تحكمه أربعة مبادئ يجب أن تأخذها الدول المتنازعة بعين الاعتبار أثناء سير العمليات العسكرية وهي: الإنسانية، والتناسب، والتمييز وحماية المدنيين، كما يوضح خبير الشؤون العسكرية، العميد المتقاعد أكرم سريوي، "إذ لا يمكن منح منطقة مكتظة بالمدنيين مهلة قصيرة في وقت متأخر من الليل مع توقع إخلائها بسهولة وفورا، وهذا يعد برهاناً إضافياً على عدم جدية إسرائيل في حماية المدنيين".

 

إنذارات مضللة للترهيب والتهجير

"لا تزال أوامر التهجير التي يصدرها الجيش الإسرائيلي بشكل يومي في لبنان، تجبر الناس على الفرار، ما يدفع العديدين منهم إلى مسافة تصل إلى 30 كيلومتراً شمالاً، حتى بات ربع الأراضي اللبنانية خاضعاً الآن لأوامر التهجير العسكرية الإسرائيلية"، بحسب ما جاء في تحديث الأمم المتحدة رقم 33 الصادر في 7 أكتوبر الماضي.

وبتحليل الخرائط المرفقة بـ 15 من الإنذارات، يوضح العميد سريوي "أن مساحة التهديد الكبيرة تعني أن جميع أعيان المدينة ومراكزها ومنشآتها المدنية مهددة بالقصف، وهذا يناقض مبدأ الحماية الإنسانية إذ يجب على "أطراف النزاع في جميع الأوقات التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية. ولا تُوجّه الهجمات إلّا إلى الأهداف العسكرية فحسب".

يخشى القاطنون في جوار فروع مؤسسة القرض الحسن قصفاً مفاجئاً

وتكشف الخريطة المرفقة بالإنذار السابق لضربة الأوزاعي عن تجاهل ما سبق، إذ كانت مساحة الهدف المشار 502 متر عند منحدر القارب والليلكي، ومن جهة ثانية يطالب الإنذار السكان بالابتعاد مساحة 500 متر أخرى، دون أن يستثني أي منشآت محمية بموجب القانون الدولي الإنساني مثل المباني السكنية، أو التعليمية، أو الصحية، فتحدد الخريطة الإسرائيلية منطقة كاملة وليس هدفا واحدا، ما يخلق غموضا لدى الأهالي بشأن المكان المستهدف. في هذا السياق، يتذكر أحمد شكر حالته لدى مطالعة الإنذار قائلا: "للوهلة الأولى لم أتمكن من قراءة الخريطة بسبب وقع الخبر، واحتجت دقائق حتى أستوعب أن المكان المستهدف قريب من منزلي، خاصة أن العبارة التي تتصدر التحذير كانت: إلى سكان الضاحية الجنوبية وليس الأوزاعي، وركضت إلى غرفة نوم الأطفال وانتشلتهم من أسرّتهم واتجهت إلى الشارع في غضون دقائق وانطلقت وسط زحام العابرين والمارة والسيارات، والأطفال منهم من يبكي ويصرخ أو صامت لا يعرف ويفهم ما الذي يجري حوله".

ولم يعرف النازحون أين يتجهون بسبب عدم تحديد إنذار الإخلاء للممر الآمن الذي عليهم أن يسلكوه، لكنهم تحركوا شمالا وخلال عبورهم استهدف العدو مبنى سكنيا، في منطقة الجناح المحاذية للأوزاعي بعد عشر دقائق من الضربة الأولى، وهو ما يؤكده شكر، قائلا إن "النازحين كانوا بموازاة المبنى لدى استهدافه".

وكرر العدو استخدام صيغة عامة لا تحدد هدفا دقيقا في الإنذار الصادر في 28 أكتوبر الماضي لسكان مدينة صور في محافظة جنوب لبنان، إذ شمل: "سكان منطقة صور وتحديدا إلى الموجودين في المباني بين الشوارع: دكتور علي الخليل، حيرام، محمد الزيات، نبيه بري"، وشملت المنطقة المظللة بالأحمر في الإنذار كل ما يقع في المنطقة من مبان سكنية ومنشآت صحية وتعليمية بلا استثناء.

الصورة
إنذار إسرائيلي قبل استهداف صور (إكس)
تشمل الإنذارات الإسرائيلية مساحات واسعة وتستهدف أعيانا مدنية  (المصدر: إكس)

وكذلك جرى تحديد مدينة بعلبك شمال شرق بيروت الممتدة على مساحة 37 كيلومترا مربعا، بشكل كامل منطقة مستهدفة في الإنذار الصادر في 31 أكتوبر الماضي، إلى جانب بلدتي عين بورضاي ودورس، وبلدة إيعات في قضاء بعلبك التي لم يسمها العدو لكنه شملها بالمساحة المشار إليها بالأحمر والتي بلغت 50 كيلومترا مربعا، وترتب على ذلك نزوح أكثر من 10 آلاف شخص، باتوا لياليهم في السيارات، والشوارع.

الصورة
إنذار إسرائيلي يطال مدينة بعلبك وبلدات حولها (إكس)
يهدف الاحتلال من الإنذارات المضللة إجبار المدنيين على النزوح وتهجيرهم قسريا (المصدر: إكس)

ويشكل إجبار المدنيين على التهجير القسري جريمة حرب وفق ما جاء في المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إذ تنص على أن "قيام دولة الاحتلال بترحيل أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها يشكّل جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية". أي أن الإنذارات تحولت إلى أداة إرهاب للمدنيين وبث الرعب في نفوسهم بدلاً من حمايتهم، كما يقول المحامي علي سويدان، والذي يعمل في مكتبه الخاص ببيروت، بالإضافة إلى بيان منظمة العفو الدولية الصادر بتاريخ 10 أكتوبر الماضي، والذي خلص إلى أن "إنذارات الإخلاء الإسرائيلية للمدنيين مضللة وغير كافية".

 

أهداف عامة

في 20 أكتوبر المنصرم، هدد العدو الإسرائيلي عبر الإنذار المنشور على صفحة أدرعي، بمهاجمة مراكز مؤسسة القرض الحسن (جمعية مالية اجتماعية يصل عدد فروعها المنتشرة في البلاد إلى 31 مركزا)، محذراً من ضرورة الابتعاد عنها، ووفق حصر قام به "العربي الجديد"، استهدف العدو 11 فرعاً في الضاحية الجنوبية بعد الإنذار مباشرة، إضافة إلى فرعي المؤسسة في مدينة بعلبك بمحافظة البقاع، ومن ثم فروع بمدينة النبطية وقرية حومين الفوقا قضاء النبطية وبلدة العاقبية في الجنوب، كذلك تم استهداف فرع منطقة صور، الأمر الذي أثار رعب القاطنين إلى جوار الفروع ومن بينهم فاطمة شري التي تسكن في بناية ملاصقة لأحد الفروع في منطقة سليم سلام في بيروت الإدارية، لكنها وأهلها النازحين من الجنوب اضطروا لمغادرتها.

الصورة
ترهيب اللبنانيين بإنذارات عامة (إكس)
شمل الإنذار جميع فروع مؤسسة القرض الحسن المنتشرة في لبنان (المصدر: إكس)

"الإنذار كان عاماً ولم يتم تحديد فرع محدد، كذلك لم يشر الإنذار إلى المسار الواجب اتباعه للوصول إلى مكان آمن، وكان من الممكن المرور بالقرب من فرع آخر للقرض الحسن لربما كان العدو عازما على استهدافه"، تقول شري، ثم تتابع أنها عادت إلى منزلها بعد يومين لكنها تخشى ما قد يقع في المستقبل.

فالإنذار بحسب فقيه، يجب أن يكون مرتبطاً بقرار واضح لما سيجري بعده، لكن ما يحصل أن الإنذارات تحولت إلى أدوات ترهيب، وهذا بالتحديد ما تشعر به شري التي تقول إن منزلها تحول من مصدر أمان إلى مكان للخوف والرعب، وينتابها القلق في كل دقيقة من استهدافه فقط لأنه مجاور لمؤسسة القرض الحسن.

النشر عبر وسائط ليست في متناول الجميع

عقب نشر إنذاري إخلاء مدينتي صور وبعلبك في أكتوبر الماضي، تجولت سيارات الدفاع المدني في الطرقات، للمناداة على الأهالي عبر مكبرات الصوت ودعوتهم إلى المغادرة نظراً لاتساع رقعة الاستهداف، كما يقول رئيس شعبة التدريب في المديرية العامة للدفاع المدني نبيل صالحاني، لـ"العربي الجديد"، وبالرغم من بدائية الوسيلة، إلا أنها الطريقة الوحيدة المتوفرة لتعميم الإنذارات التي لا يتمكن الجميع من رصدها عبر منصة إكس.

الصورة
جانب مما يتداوله اللبنانيون على واتساب (واتساب)
يحذر اللبنانيون بعضهم في المناطق المهددة عبر مجموعات "واتساب" (المصدر: واتساب)

ما يخشاه صالحاني ورفاقه من عدم وصول الإنذار إلى الكثيرين، تؤكده خديجة أحمد التي التقاها "العربي الجديد" في بيروت بعد هروبها ووالدتها الثمانينية من الجنوب، إذ التجأتا إلى بناية خالية في قرية الغبيري الواقعة في قضاء بعبدا بمحافظة جبل لبنان، وبتاريخ 22 أكتوبر الماضي، أعلن العدو عزمه استهداف البناية ذاتها، إلا أن خديجة لم تعلم بالإنذار مباشرة، كونها لا تمتلك تلفازاً ولا حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم ينقذها سوى اتصال من صاحب المبنى الذي قام بإيوائهما، فنزلت إلى الشارع تستنجد بالمارة وصعد أحدهم مسرعا وحمل والدتها على ظهره وهو يسابق الوقت، وما إن وصلوا إلى الشارع وابتعدوا قليلاً، حتى دمر الاحتلال البناية.