يشجع المعلم الأميركي كريستوفر بيبر، المشرف على إعداد مناهج تدريس التربية الجنسية وتدريب المعلمين في سان فرانسيسكو، فكرة ارتباط تدريس المحتوى المتخصص بموافقة ودعم أولياء الأمور، من أجل خلق تعاون مع المؤسسات التعليمية وتقديم إجابات وافية على تساؤلات أطفالهم حول تطور أجسادهم والجنس والحمل ولا يمانع من تدرج المحتوى ليناسب أعمارهم مستنداً إلى حقائق علمية، وهو ما يدعمه آباء من بينهم الكاتب الأميركي من أصل لبناني والمؤلف في مجال الخصوصية عبر الإنترنت وائل حسن، والذي يقول أنه مع تدريس معلومات حول الاختلاف بين أعضاء الجنسين وكيفية حدوث الحمل والوقاية من انتقال الأمراض لكنه يبدي قلقه وانزعاجه من توسع المناهج والغوص في تفاصيل مجتمع الميم (المثليين).
وعلى العكس من حسن يرى الكاتب جايسن بريسكا، والذي يعيش في نيويورك وله طفلان، بأن ابنيه وزملاءهما عليهم أن يفهموا بأن الناس مختلفون، ومن هذا المنطلق لا يعترض على تدريسهم وإدخال معلومات إلى المناهج حول المثلية ومجتمع LGBTQ، بينما يعارضه في ذلك آباء من المسيحيين والمسلمين المحافظين حتى أنهم شكلوا تحالفاً تنسيقياً لمواجهة تدريس تلك المناهج في المدارس، وطالبوا بسحب كتب مدرسية وصفوها بـ"المروجة للمثلية" في اجتماع مجلس المدارس في 18 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بمدينة ديربورن في ولاية ميشيغان، معتبرين أن محتوى الكتب ليس مناسباً لعمر الأطفال.
كيف تطورت دروس التربية الجنسية في المدارس الأميركية؟
بدأ تدريس التربية الجنسية في المدارس الأميركية من أجل الحيلولة دون انتشار الأمراض المنقولة عبر الممارسة، والتقليل من حالات الحمل غير المرغوب فيه، كما يقول البروفيسور جوناثان زيمرمان، أستاذ تاريخ التعليم في جامعة بنسلفانيا، ومؤلف كتاب Too Hot To Handel، والذي يصفه موقع مطبعة جامعة برينستون، بـ"التأريخ لمناهج التربية الجنسية" والتي بدأت باستعمال نماذج عن تكاثر الحيوانات والنباتات في المدارس الثانوية بولاية شيكاغو عام 1913، استناداً إلى الاعتقاد بأن الحديث عن تكاثر الإنسان سيولد رغبة لدى الأطفال لتجربة الأمر، وفي مرحلة لاحقة وتحديداً في خمسينات القرن الماضي تطرقت المناهج إلى ما يسمى بـ "تعليم الحياة الأسرية والزواج بين الرجل والمرأة"، ثم دخلت مفاهيم أخرى في فترة الستينات كانت تشكل "تابوهات"على غرار الإجهاض ومنع الحمل والمثلية ما خلق تبايناً في صفوف الأميركيين إزاء تدريسها في المدارس، وبدأت The New Right Movement أو حركة اليمينيون الجدد تعارض الأمر بشكل منظم إذ تأسست في الأصل من أجل التصدي لمواجهة إباحة الإجهاض وغيرها من القضايا التي أثارت انقساما واستقطابا مجتمعيا تزامن مع حرب فيتنام ستينات القرن الماضي.
ويرى المحافظون واليمينيون أن تدريس الجنس مهمة الأسرة والمؤسسة الدينية، وأنه من الخطير مناقشته في المدارس الممولة من قبل الولايات، لكن أزمة انتشار فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) خلقت اتجاهاً تغييرياً مدعوماً من قبل اليسار الأميركي بشكل أساسي ومن ثم بعض المحافظين اليمينيين الذين أيدوا تدريس Abstinence-only education" أي العفة فقط وما يتعلق بـ الجنس بين الزوج والزوجة، كما يقول زيمرمان، والذي وصف الانتقال من معارضة الحديث عن الجنس في المدارس إلى تقبله تحت غطاء تدريس العفة، بـ"التنازل السياسي".
وبسبب الانقسام المجتمعي يختلف التعامل مع التربية الجنسية حسب قوانين الولايات، إذ يبدأ في الكثير من المناطق التعليمية من الصف السادس أو السابع وحتى الصف الثاني عشر، وفي ولايات أخرى تبدأ الدروس من عمر 5 سنوات، وبما أن سياسات المدارس تحدد على المستوى المحلي فإن ما يتلقاه التلاميذ يختلف حسب توجه كل ولاية، في ظل عدم وجود قانون فيدرالي ينظم التربية الجنسية في المدارس، بحسب دراسة نشرت في مجلة جامعة جورج تاون عام 2019 تحت عنوان التربية الجنسية في المدارس، "Sex Education in Schools".
وتعكس سياسات تدريس التربية الجنسية توجه الولاية ناحية الحزبين الديموقراطي والجمهوري، إذ تفرض 34 ولاية بالإضافة إلى العاصمة واشنطن منهاجاً للتربية الجنسية يتضمن دروساً حول الوقاية من الأمراض المنقولة، مثل الإيدز، وفي ولاية كانساس ذات الميول السياسية الديموقراطية تُدرس التربية الجنسية مع منح المدارس لأولياء الأمور حق اختيار المواضيع التي يريدون طرحها على مسامع أطفالهم، أما ولايات فلوريدا، وميسيسيبي وداكوتا الشمالية وهي ولايات ذات ميول سياسية محافظة وجمهورية الطابع، فتمنع التطرق إلا لما يسمى بتدريس العفة فقط، وتشرح المناهج طرق تجنب الحمل غير المرغوب فيه، وبدلاً من التربية الجنسية تفرض نبراسكا، وتكساس ووايومينغ تدريس الصحة العامة، وتشمل مناهج ولايات كارولينا الجنوبية، داكوتا الجنوبية و يوتا بشكل أساسي طرق انتقال الأمراض الجنسية، بينما تفرض ألاباما وميزوري وكاليفورنيا، وميريلاند، وميشيغن تدريس طرق انتقال "الإيدز" دون التطرق لغيره من الأمراض، حسب الدراسة السابقة.
تصاعد حمّى التشريعات في الولايات
وأبرز هذه القوانين، رقم 1557 والمعروف بـ Do Not Say Gay bill الصادر عن حاكم ولاية فلوريدا الجمهوري رونالد ديون ديسانتيس في 22 مارس/آذار الماضي، ويمنع التربية الجنسية من مرحلة ما قبل المدرسة (أي من عمر 3 إلى 6 سنوات، وحتى الصف الثالث من 8 إلى 9 سنوات)، كما يحظر القانون تدريس أي محتوى حول الجنس لا يتماشى مع المعايير التي تفرضها الولاية ولا تناسب عمر الأطفال، ودخل التشريع حيز التنفيذ منذ شهر يوليو/تموز المنصرم، وهو ما أثار حفيظة شركة Disney ديزني التي دعمت ديسانتيس خلال حملته الانتخابية واستفاد من تبرعاتها، إذ عبرت من خلال منشور على حسابها على إنستغرام عن رفضها التمييز ضد مجتمع الميم، بينما أقرّ حاكم ولاية تينيسي الجمهوري بيل لي، في إبريل/نيسان الماضي، تشريع SB 1229، وينص على إخطار الوالد أو الوصي القانوني لأي فرد يدرس في مدرسة محلية في ولاية تينيسي قبل تسجيل الطفل في مناهج التربية الجنسية وتحديداً المتعلقة بالهوية والتوجه الجنسي ما يعطي الوالد خيار استبعاد الطفل من دروس التربية الجنسية، اعتباراً من شهر يونيو/حزيران 2022، حسب الموقع الرسمي لمعهد جوتماشر (guttmacher مؤسسة بحثية غير ربحية تعمل في مجال الصحة والحقوق الجنسية والإنجاب بالولايات المتحدة).
وبينما يرى كوري سايلور، مدير البحث في مجلس العلاقات الأميركية CAIR "كير"، ضرورة إعطاء أولياء الأمور الحق في معارضة تدريس ما يخالف معتقداتهم، بالتالي أن تطلب مدارس من الآباء في بداية العام الدراسي ملء عدد من النماذج تحمل شرح مضمون ما يتلقاه أبناؤهم في التربية الجنسية، وتمنح لهم حرية القبول أو عدمه ليختاروا ما يتلاءم مع معتقداتهم، يرد بيبر بأن التشريعات التي تحظر الحديث عن مجتمع الميم لن تغير شيئاً، فالتلاميذ مثليين ومتحولين جنسياً موجودون في المدارس، وتجنب الحديث عنهم لن يغير شيئاً.
استغلالٌ يفاقم الاستقطاب السياسي
"يستغل صناع القرار والسياسيون المشاعر التي يثيرها موضوع تدريس التربية الجنسية لتحقيق مكاسب، بدل اتخاذ قرارات مبنية على حقائق علمية وبحوث أثبتت فعالية التربية الجنسية في التقليل من الحمل غير المرغوب فيه، وانتقال الأمراض ووقاية التلاميذ من الاعتداءات"، كما يقول بيبر، داعياً الآباء إلى مناقشة أبنائهم وإكمال دور المدرسة وتقديم إجابات على ما تثيره تساؤلاتهم المتنامية.
وتتفق ميشال سلايبوه مديرة منظمة SIECUS، مع بيبر وتصف الساعين إلى تقويض الجهود المبذولة لنشر الثقافة الجنسية وتعزيز التنوع والاندماج في المجتمع الأميركي، بترويج الخوف والإشاعات ولغة الخداع لتحقيق أهداف "الأقلية الرجعية"، مستغلين بروزهم في فترة الرئيس السابق دونالد ترامب، التي شهدت تفاقم الاستقطاب الحزبي إذ تكشف نتائج استطلاع كلية هاريس، تأثر الآباء بأفكار حزبهم بشأن مواضيع التربية الجنسية، في ظل انقسامات حادة وخاصة حول آرائهم في الطلاب المتحولين جنسياً، ومن ذلك استخدامهم الحمامات التي تتوافق مع هويتهم المفضلة، كما قال 4 من كل 10 جمهوريين أن المعلمين يتحدثون كثيرا عن مواضيع لها علاقة بالجنس، وهو ما يتفق مع آراء 1 من كل 10 ديموقراطيين.