استمع إلى الملخص
- سياسات الإهمال الطبي المتعمد: تتعمد إدارة السجون نقل الأسرى المصابين إلى زنازين مكتظة وتمنع إدخال الملابس وأدوات النظافة، مما يفاقم الوضع الصحي ويعيق الاعتراف بالمرض كجائحة.
- الجهود القانونية لمواجهة الانتهاكات: تسعى هيئة شؤون الأسرى لمقاضاة إسرائيل دولياً بسبب هذه الانتهاكات، معتبرةً أنها قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، مما يعيق عودة الأسرى لحياتهم الطبيعية.
يوثق كاتب التحقيق تجربة ذاتية عاينها وعاناها خلال اعتقاله منذ السابع من أكتوبر 2023، إذ تتعمّد إدارات سجون الاحتلال نشر الأمراض الجلدية بين الأسرى، وتتجاهل التزاماتها بعلاجهم، لتستمر معاناتهم بعد الإفراج عنهم.
- فوجئ الأسير المحرر أكرم سلمة 36 عاماً، أثناء اعتقاله في سجن النقب الصحراوي، جنوب فلسطين المحتلة، بتأكيد أحد الممرضين التابعين لمصلحة السجون الإسرائيلية بأنه استلم دواءه من العيادة التابعة للسجن في شهر أغسطس/آب، إذ عانى من مرض الجرب "سكابيوس" في بداية يوليو/تموز الماضي، كما روى لـ"العربي الجديد"، مضيفاً لم أحصل على الدواء، وأدت المماطلة في علاجي إلى نقل العدوى لأربعة آخرين.
يومياً كان سلمة يتوجه إلى ضباط السجن والممرضين أثناء قيامهم بإحصاء الأسرى صباحاً ومساء، مطالباً بتقديم العلاج اللازم بعد ظهور الأعراض الأولى للمرض، وبعدما بدأ يعاني من طفح جلدي وحكة شديدة، لكن تطور الداء مع مرور الوقت، وظهرت نتوءات ملتهبة أفرزت القيح، وهو ما أثر في قدرته على الحركة والنوم، وبعد ثلاثة أسابيع من المعاناة جرى استدعاؤه إلى العيادة مكبلاً في يديه ورجليه، رغم وضعه الصحي، وهناك فحصته الطبيبة وأخبرته بأن الدواء سيصله إلى زنزانته، لكن ذلك لم يحدث حتى جرى الإفراج عنه.
وتعرّف منظمة الصحة العالمية الجرب بأنه غزو طفيلي، تسببه حَلَم دقيقة تخترق الجلد وتضع البيض، مما يسبب حكة شديدة وطفحاً جلدياً. ويمكن أن يؤدي الجرب إلى تقرحات جلدية ومضاعفات خطيرة مثل تسمم الدم (عدوى مجرى الدم)، وأمراض القلب، ومشاكل الكُلى. ويُعالَج بالكريمات الموضعية أو الأدوية الفموية وتسبب طفيليات "العث" المرض، وعادة ما تنتشر عن طريق الاتصال المباشر بجلد شخص مصاب، وفي بعض الأحيان، من خلال الملابس المشتركة أو المناشف أو الفراش، بحسب دراسة "الجرب: المناعة المرضية والتغيرات المرضية" التي نشرتها المكتبة الوطنية التابعة لوزارة الصحة الأميركية في مارس/آذار 2024.
انتشار المرض في الزنازين
عاش الأسير المحرر وطبيب الأسنان، أمجد الحموري، برفقة 9 أسرى آخرين في زنزانة مخصصة للحجر الصحي، ضمت 9 مصابين بقسم 27 في سجن النقب، ونقل إليها بعدما أصيب بالمرض في يوليو الماضي، وظل يعاني إلى أن تلقى علاج مرهم Eliclear "إليكلير" مرة واحدة فقط، بعدما تقدم محاميه بشكوى إلى المحكمة، ولكن قبل أن يكتمل علاجه جرى نقله برفقة 3 أسرى مرضى إلى زنزانة بها 8 أسرى غير مصابين، ما أدى لانتشار المرض بينهم، وهو ما سبق وأن وقع للأسير سلمة، إذ نقل الاحتلال إلى زنزانته أحد الأسرى من زنازين الحجر دون اكتمال علاجه.
وعلى مدار الشهور الستة الماضية، عاين الطبيب المختص في الأمراض الجلدية صلاح صافي، الأسرى المحررين بشكل شبه يومي في عيادته، كما يقول لـ"العربي الجديد"، وجميعهم أكدوا له تلقيهم الدواء مرة واحدة فقط، وهذا غير كاف للشفاء، ويبقى المريض مصاباً بالمرض وقادراً على نقله للآخرين، مشيراً إلى أن 70% من الحالات التي توجّهت إلى عيادته بعد الإفراج عنها، كانت تعاني من تقرحات والتهابات، وهي مضاعفات يسببها عدم اكتمال العلاج أو عدمه.
هيئة شؤون الأسرى والمحررين تسعى إلى مقاضاة إسرائيل
وبحسب الحموري وسلمة والأسير المحرر خلدون البرغوثي، فقد ساهمت إجراءات مصلحة سجون الاحتلال في انتشار المرض عبر جمع الأسرى المرضى، وتوزيعهم على الزنازين التي يقبع فيها غير المصابين، فعلى سبيل المثال، كان البرغوثي برفقة أسير مصاب لمدة شهر، وقد نقل الأخير المرض له، وتسبب في إصابة سبعة آخرين كانوا يقيمون في الزنزانة التي تتسع أصلاً لستة أشخاص فقط في الوضع الطبيعي، بينما كان عدد المعتقلين فيها 12 أسيراً، وبالإضافة لذلك كان يجري زج الأسرى بأعداد كبيرة خلال عمليات التفتيش والاقتحام بمعدل 50 أسيراً في زنزانة مساحتها 3.5 أمتار مربعة، وهو ما جرى مع سلمة والحموري في 4 أغسطس الماضي.
ويؤكد الأسرى الثلاثة المذكورون وشهادات 9 آخرين، أن إدارة سجون الاحتلال تمنع إدخال الملابس، ما اضطرهم إلى تبادلها فيما بينهم، بسبب حالة الضرورة، رغم انتشار الجرب على نطاق واسع، خاصة أن إدارة السجن تتعمد حرمانهم من التعرض لأشعة الشمس منذ بداية الحرب، عبر منعهم من الخروج لساحات الأقسام، إلى جانب رفض تقديم أدوات ومواد التنظيف الأساسية لهم، ومنعهم من الاستحمام لأسابيع، وكلها أسباب تساهم في انتشار المرض، وفق مختص الأمراض الجلدية صافي.
تعذيب الأسرى
يؤكد المحامي وئام بلعوم، الموكّل من قبل 40 أسيراً فلسطينياً يطالبون بالعلاج من مرض الجرب، أن سجني رامون ونفحة أغلقا بالكامل خلال سبتمبر/أيلول الماضي، بسبب تفشي المرض على نطاق واسع في صفوف المعتقلين، في ظل مماطلة إدارة سجون الاحتلال بتقديم العلاج المناسب لهم، وعدم اعترافها بتوصيف "الجائحة" لما يحدث، خشية أن يترتب على ذلك إجراءات تتضمن تقديم العلاج والملابس وأدوات التنظيف التي يحتاجها الأسرى، وهو ما يعني الإصرار على خلق بيئة مواتية لانتشار المرض.
ويشير في مقابلة مع "العربي الجديد" إلى أن مصلحة سجون الاحتلال تقدّم أرقاماً غير دقيقة عن عدد الحالات المصابة حتى لا يجري الاعتراف بالمرض كـ"جائحة"، فمثلاً تدّعي إدارة سجن النقب أن لديها 30 حالة فقط، فيما استطاع "العربي الجديد" توثيق 40 حالة مصابة خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول، في زنزانة رقم 2 قسم 27، و7 و13 في قسم 28، وزنزانة 12 قسم 24، إذ يوجد في كل زنزانة 10 مرضى. أما خارج زنازين الحجر الصحي، فلا تتعامل مصلحة سجون الاحتلال إلا مع عدد قليل من الحالات على أنها مصابة، على سبيل المثال؛ وثق "العربي الجديد" 5 حالات في زنزانة رقم 12 بقسم 27 في سجن النقب، وهم: أكرم سلمة، عدنان أبو شوشة، محمود أبو ذكر، صالح الشافعي، عمار صوف، أي ما مجموعه نصف أسرى الزنزانة، بينما لم تعترف إدارة سجن النقب إلا بالأسير سلمة كحالة مرضية، وهذا ينطبق على زنازين القسم كافة، وفق إفادة الأسير سلمة الذي أفرج عنه في 11 أكتوبر.
انتهاك اتفاقية جنيف
تكفل اتفاقية جنيف الرابعة في المواد 76 و85 و91 و92 وبروتوكولها الإضافي الأول حق الأسرى في تلقي الرعاية الطبية الدورية، وتقديم العلاج اللازم لهم من الأمراض التي يعانون منها، وتنص على وجوب توفير عيادات صحية وأطباء متخصصين، بحسب ورقة تقدير موقف صدرت بعنوان "سياسة الإهمال الطبي المتعمد بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين" عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان في مايو/أيار 2019، لكن "ما يتعرض له هؤلاء الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون من حرمان من العلاج أو تقديم الرعاية الطبية الضرورية يصل إلى حد ارتكاب جرائم القتل العمد، وذلك في الحالات التي ينتج عن هذا الحرمان وفاة الأسير أو المعتقل، أو جرائم التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، أو جرائم إلحاق أذى خطير بالصحة العقلية أو البدنية، والأخطر من ذلك، يعد الحرمان من الرعاية الطبية المنقذة للحياة، وبخاصة في حالة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من قطاع غزة، فعلاً من أفعال جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بشكل واضح ضد أهالي القطاع"، كما تقول مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (منظمة مستقلة مقرها جنيف) ليما بسطامي.
محاولة لمواجهة الاحتلال قانونياً
يكشف رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين (حكومية) قدورة فارس لـ"العربي الجديد"، أنهم توجهوا إلى مؤسسات قانونية دولية، وتحديداً فيما يتعلق بانتشار الأمراض الجلدية في سجون الاحتلال، "ما يزيد من فرصة ملاحقة تلك الأفعال أمام المحكمة الجنائية الدولية، بوصفها جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب، أو حتى جريمة إبادة جماعية، في حال طبعاً اعترفت المحكمة الجنائية الدولية بأن ما يحدث ضد فلسطينيي قطاع غزة هو جريمة إبادة جماعية، في حين لا يمكن ملاحقة تلك الأفعال بوصفها إهمالاً طبياً، لخلو نظام روما الأساسي من النص على هذه الجريمة".
سجون الاحتلال تقدّم أرقاماً غير دقيقة عن عدد الحالات المصابة
وتشير بسطامي إلى أن أفعال الاحتلال، سواء بوصفها جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جريمة الإبادة الجماعية، تدخل في اختصاص المحاكم الدولية، وبخاصة المحكمة الجنائية الدولية، ومن شأنها كذلك، ونظراً لخطورتها، أن تحرك الاختصاص القضائي العالمي، مما يتيح إمكانية محاكمة الجناة أمام المحاكم الوطنية للدول الغربية؛ بغض النظر عن جنسية الجناة أو الضحايا أو حتى مكان وقوع الجريمة. وتوضح بسطامي لـ"العربي الجديد"، أنه "لا توجد جريمة مسماة بالإهمال الطبي في قواعد القانون الدولي، لذلك يجب تكييفها باعتبارها جرائم تعذيب، وهذا يساعدنا في رفع قضايا ضد الاحتلال، فالقانون الدولي كالقانون المحلي، يلتزم بمبدأ الشرعية، أي لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني (المادة 22 من نظام روما الأساسي)، ولذلك يجب التعامل مع هذه الأفعال وتقديمها منذ البداية على النحو والتكييف القانوني السليمين من أجل إلزام الدول والمحاكم التي ترفع أمامها بالنظر والفصل فيها".
وفي انتظار الإنصاف القانوني، تستمر معاناة الأسرى حتى بعد الإفراج عنهم، إذ حرمهم مرض الجرب من احتضان أمهاتهم وأبنائهم في اللحظات الأولى للحرية، كما يقول الأسير سلمة، الذي كان يتمنى أحياناً أن تمتد فترة اعتقاله حتى الشفاء كي لا يُحرم من هذه اللحظة التي يتمناها الأسير ويتخيلها باستمرار خلال فترة اعتقاله، بينما يرى البرغوثي أن أسوأ ما في الأمر هو استمرار الإصابة بالمرض بعد الحرية، وهو ما يعيدك في كل مرة إلى ذكريات السجن المؤلمة، بينما يشكو الحموري من النتوءات التي حفرت جلده، ويبدو أنها سترافقه زمناً طويلاً، وتشده إلى مشاهد أقسى تجربة اعتقال مرّ بها.