يستهدف جيش الاحتلال الجبهة الداخلية في غزة نفسياً، عبر أساليب تتكامل مع الضربات العسكرية، من بينها بثّ عملائه للشائعات، ويستخدم أيضاً إعلامه ضمن أدوات الصراع، مستغلاً أزمات القطاع المحاصر، لإرباك أداء الأجهزة الحكومية.
- سادت حالة من الهلع وسط سكان حيّ الشجاعية الواقع شرقيّ مدينة غزة، ليل الثالث عشر من مايو/ أيار، بعد انتشار شائعات عن نية الاحتلال قصف الحيّ الذي تقطنه 100 ألف نسمة بالمدفعية والتقدم باتجاهه، ما سبّب نزوح 20 ألفاً لجأوا إلى 27 مدرسة تابعة لوكالة الغوث "الأونروا" للاحتماء بها، رغم تأكيد وزارة الداخلية الفلسطينية، أن ما رشح عن عملية برية مزعومة، مجرد شائعات مصدرها الاحتلال.
ومن بين نازحي الحيّ، الخمسيني محمد سالم، الذي قرر الفرار بعائلته إلى مركز المدينة مثل جيرانه، إذ كانوا يخشون تكرار سيناريو عدوان 2014، حين قصفت الطائرات والدبابات حيّهم في 20 يوليو/ تموز، ما سبّب سقوط 74 شهيداً، ومئات الجرحى من المدنيين بيوم واحد.
شائعات الشجاعية تكررت بصورة مختلفة في مناطق واسعة من القطاع، ونتجت منها حالة رعب مماثلة سرت في محيط برج مشتهى (القاهرة) وسط مدينة غزة، يوم 14 مايو، بعد اتصال تلقاه أحد السكان، يفيد بنية الاحتلال تدميره، لتضطر عشرات العائلات إلى إخلائه. وحتى المباني القريبة منه نزح عنها أهلها، كما يقول الأربعيني محمود كامل، مضيفاً: "سمعنا أنهم بدهم يقصفوه ويدمروه، وإنهم اتصلوا على أحد سكان البرج، تركت كل شيء للنجاة بعائلتي، وتم استهداف شقتين دون تدميره كلياً كما قيل".
الأزمات أداة ضغط للاحتلال
تشهد 53 مدرسة تابعة للأونروا لجأ إليها 52 ألف نازح حالة اكتظاظ كبيرة، ما يزيد من مخاطر تفشي وباء كورونا بالقطاع، في ظل نقص إمكانات مواجهة الوباء وشُحّ التطعيم، إذ لم يزد عدد من تلقوه على 38,752 شخصاً من أصل مليوني شخص، حتى تاريخ 18 مايو.
وبالإضافة إلى ذلك، تعمد جيش الاحتلال استهداف مختبر فحص كورونا الوحيد وسط مدينة غزة، ما دفع وزارة الصحة إلى وقف العمل به، بالإضافة إلى قتل طبيبين وإصابة عشرة آخرين بجروح، وفق وكيل وزارة الصحة في القطاع الدكتور يوسف أبو الريش. وإلى جانب الضغط على القطاع الطبي المتهالك بسبب الحصار، ضيّق الاحتلال الخناق الاقتصادي على سكان غزة، عبر إغلاق المعابر الحدودية، رغم إعلانه فتحها، وهو ما تبين كذبه. وبينما منع دخول السلع والبضائع، ضرب 150 مصنعاً ومنشأة اقتصادية، وفق الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية.
ويدخل ما سبق ضمن أساليب الحرب النفسية، بحسب ما جاء في رسالة ماجستير للباحث يوسف محمد قاسم، بعنوان "أثر الحرب النفسية الإسرائيلية على الذات الفلسطينية"، صادرة عن جامعة بيرزيت عام 2007، إذ دأبت إسرائيل على فرض الحصار الاقتصادي كسلاح للحرب النفسية، في محاولة لردع الفلسطينيين.
ويستعين كيان الاحتلال بمختصين في أساليب الحرب النفسية، ويعمل هؤلاء بالتنسيق مع العسكريين، بحسب الباحث قاسم، وهو ما يؤكده رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في غزة سلامة معروف، ورئيس قسم العلوم السياسية والإعلام في جامعة الأمة الدكتور عدنان أبو عامر، اللذان رصدا بصمات واضحة لخبراء الحرب النفسية في التصعيد الحالي.
اتصالات لإثارة الفوضى والرعب
في 17 مايو الحالي (2021)، حذرت المديرية العامة للدفاع المدني في غزة من اتصالاتٍ رصدتها لمنتحلي صفة، تطلب من المواطنين إخلاء منازلهم بذريعة أنها تشكل خطراً عليهم، وقد تتعرض للاستهداف، وهو ما يؤكده الناطق باسم وزارة الداخلية، إياد البزم، مشيراً إلى رصد اتصالات ورسائل نصية ترد لهواتف المواطنين في القطاع من حسابات مؤسسات وجهات فلسطينية اختُرِقَت، بهدف إرباك الجبهة الداخلية، مؤكداً توقيف 43 مروّجاً للشائعات منذ بدء العدوان وحتى 17 مايو، عملوا على المساس باستقرار الجبهة الداخلية، ووجّهوا اتصالات إلى بعض المنازل والأبراج السكنية تتضمن تهديدات كاذبة بالقصف، لبثّ الذعر في نفوس المواطنين.
توقيف 43 مروّجاً للشائعات في غزة خلال ثمانية أيام من العدوان
ولدى الاحتلال خلايا من العملاء مهمتها نشر الشائعات، منها ما سبّب إخلاء أبراج من قاطنيها، مثل الهندي والوطن وعمارة القطان، وأخرى سبّبت تهجير مناطق سكنية، مثل بلدتي الشوكة وبيت حانون، وهو أمر متكرر سبق أن رصدته الأجهزة الأمنية في الحروب الثلاث الماضية، بحسب مصدر في الأمن الداخلي رفض الكشف عن اسمه، لكونه غير مخول إليه الحديث للإعلام.
الأخبار الكاذبة
يستخدم الاحتلال وسائل متعددة للحرب النفسية، بحسب معروف ومصدر في الأمن الداخلي، منها الاتصالات بهواتف الغزيين، واختراق صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لبثّ دعايته، إضافة لرسائل نصية موجهة، وأخبار مدسوسة في الإعلام العبري، وإلقاء منشورات تحريضية ضد المقاومة عبر الطائرات مثلما جرى في حيّ الشجاعية يوم 15 مايو.
ورُصِد 150 اتصالاً ورسالة نصية وصلت إلى هواتف الغزيين خلال الأيام السبعة الأولى من عدوان 2021، ادعى بعضها أنها من الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة. ويسعى الاحتلال إلى استغلال تردي الأوضاع المترتبة عن العدوان، في محاولة للاستدراج والحصول على معلومات تضر بالمقاومة، إذ تسعى صفحات إلى الحديث مع الغزيين، وتدعي أنها مؤسسات لتقديم مساعدات، وتحاول جمع معلومات عن محيطهم، كما يقول معروف، وهو ما دعا اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة إلى إصدار بيان في 18 مايو، تنفي فيه علاقتها بأي اتصالات "وردت لمواطنين تطلب منهم الإدلاء ببياناتهم وعناوينهم لتقديم مساعدات إغاثية عاجلة أو تسليمهم مساعدة نقدية (بقيمة 100 دولار)".
ونفى البزم "الشائعات التي روجتها قناة العربية بخروج عدد من قادة المقاومة وعائلاتهم إلى مصر". ويؤكد أبو عامر أن دعاية الاحتلال وقت الحرب تُعد إحدى أدواته التي لا تقلّ أهمية عن قصف الطائرات، وتنقسم إلى جزأين: الأول موجه إلى العالم الخارجي، والثاني لسكان قطاع غزة، بغية التأثير فيهم.
وأجمع أبو عامر ومعروف، على استخدام الاحتلال لإعلامه كوسيلة للدعاية في زمن الحرب، بسبب تزايد النقل والترجمة، ومثال على ذلك ما حدث ليل الخميس 13 مايو حين أوردت وسائل الإعلام العبرية أخبار بدء عملية برية في شمال القطاع، لكن المقاومة تأكدت أنها كانت خدعة إسرائيلية، بهدف استدراج المقاومين للقضاء عليهم، ولم تنجرّ إلى ما بثه إعلام الاحتلال من أخبار كاذبة، وهو ما دعا المكتب الإعلامي الحكومي إلى تحديد عدد من المختصين، يمكن نقل ترجماتهم، ومن بينهم أبو عامر، ومؤمن مقداد، تفادياً لترويج الأخبار المضللة، كما يقول معروف.
استهداف عبر مواقع التواصل
كثف الاحتلال من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي للتأثير بالغزيين في زمن الحرب، عبر إنشاء حسابات وهمية، بعضها باسم مؤسسات وأشخاص وقيادات بارزين، إذ طالبت إذاعة صوت الأقصى المقربة من حركة حماس، الجمهور بمقاطعة صفحات مزورة، تحمل اسمها، وتبثّ أخباراً "مسمومة"، كذلك دعا طاهر النونو، مستشار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إلى عدم التعاطي مع أي حسابات باسم إسماعيل هنية، نافياً وجود حسابات لهنية على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما رصد معد التحقيق اختراق 30 صفحة على مواقع التواصل، وخصوصاً على "فيسبوك"، بالإضافة إلى موقع وحساب وكالة شهاب المحلية للأنباء، التي استُخدِمَت لبث محتوى معادٍ للمقاومة، باللغة العربية، بحسب معروف والمهندس سمير النفار، مدير المركز الشبابي الإعلامي.
تهديدات من الاحتلال لنشطاء على مواقع التواصل باستهداف منازلهم
ولاحظ عشرة نشطاء بارزين على مواقع التواصل الاجتماعي من غزة، بينهم الإعلامي هاني الشاعر، والصحافية أمل بريكة، والناشط محمد قنديل، سعي مئات الحسابات مجهولة الهوية التي ظهرت فجأة على موقع "فيسبوك" لإضافتهم والتعليق على صفحاتهم، والمثير أنها لم يمضِ على إنشائها سوى سويعات، كما يقول النشطاء، الذين حظروها بعد محاولة إضافة محتوى يهاجم المقاومة، وبثّ دعاية تصبّ في مصلحة الاحتلال. وهدد الاحتلال 50 من الناشطين على مواقع التواصل عبر طلب التجاوب معه، وإلا قُصفَ المنزل ودُمِّرَت حياتهم وممتلكاتهم، وهو ما حدث مع الأسير المحرر والمبعد إلى غزة محمد حمادة.
حملات مضادة
حظر قانون العقوبات الثوري الفلسطيني لسنة 1979، ترويج الشائعات، إذ تنص الفقرة ب من المادة الـ 164 على أنه "يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة (من 3 أعوام إلى 15 سنة)، كل من أذاع أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها"، كذلك تحظر اتفاقية جنيف الرابعة في نص المادة الـ 33 العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب، بحسب المحامي والحقوقي في مركز الميزان يحيى محارب.
وللرد على عدوان الاحتلال، أطلق المركز الشبابي الإعلامي، حملة لمواجهة الدعاية والاستهداف النفسي للغزيين، عبر نشر مواد إعلامية توعوية، تركز على رسالة بأن "ترويج الشائعات يحقق أهداف الاحتلال، فلا تكن معيناً لهم"، كما يقول النفار، الذي أضاف أن حملتهم تستهدف النشطاء المؤثرين، وتعرّفهم بأساليب الدعاية الإسرائيلية، وطرق تمريرها، للتدقيق في ما يُروَّج، مشيراً إلى رصد 500 ألف منشور تحريضي إسرائيلي خلال العام الماضي، تُرجم بعضها، وأُعيد بثّه باللغة العربية، عبر حسابات مجهولة، ومفاد تلك المنشورات أن "الفصائل تستخدم أهالي قطاع غزة كدروع بشرية"، وأن "الجيش سيضرب بقوة من يساند المخربين".
ويتابع المكتب الإعلامي الحكومي، بالتعاون مع النيابة العامة، هذه الصفحات، كما يقول معروف. كذلك وُجِّه 30 تنبيهاً إلى نشطاء تورطوا في نشر مواد تسهم في زعزعة الاستقرار، بينما أحيلت حسابات لم يجرِ التعرف إلى أصحابها على الجهات الأمنية، للتعرف إلى من يديرها، وتحذير الناس منها.