يتذكر الأسير المحرر شوقي أبو نصيرة قصة هروبه من سجون الاحتلال، والتي بدأ أول فصولها مع اللحظات الأولى لاعتقاله في عام 1984، وقتها فكر للمرة الأولى في وضع خطة للتحرر من سجن غزة، وبالفعل في عام 1987 اتفق مع أحد رفاقه على التفاصيل، لكن قبل البدء بالتنفيذ صدر بحقه حكم بالسجن لـ 5 مؤبدات، وتم نقله بعدها إلى سجن عسقلان، كما يقول، مستدركا: "تركنا الخطة لرفاقنا في الأسر، ورغم ما جرى زاد إصراري على الهرب".
يضيف أبو نصيرة في مقابلة مع "العربي الجديد" عبر الهاتف من غزة حيث يعيش: "لاحقا انتقلت إلى سجن نفحة في صحراء النقب، وهناك سمعنا بأن رفاقنا في سجن غزة نجحوا بتنفيذ خطتنا وانتزاع حريتهم، وقلنا وقتها إننا سنرد بخطة هروب أخرى من السجن والذي كان يضم حينها 89 أسيرا، وهو ما بدا وكأنه ضرب من الخيال".
كانت الخطوة الأولى أن حصل أبو نصيرة ورفاقه على منشار بطول 10 سنتيمترات من أجل عمل فتحة بارتفاع 40 سنتيمترا وعرض 50 سنتيمترا، كما هربوا من قسم مجاور قيد الإنشاء، طلاء من أجل تغطية مكان القص، بحسب أبو نصيرة، والذي تشجع ورفاقه على تنفيذ مراحل الخطة، بعد رصدهم وجود كلب حراسة على الممر الذي خططوا للهروب عبره، وهو ما ولّد قناعة بإمكانية المهمة بسبب نقص الكادر البشري، وحتى رغم أن الكلب بدأ بالعواء عند مغادرة القسم، لكن السجانين لم يلقوا له بالا لأن الأمر بالنسبة لهم أصبح روتينا، إذ يفعل ذلك عند رؤيته أي شيء يتحرك، وبالفعل وصلوا إلى غزة، لكن تم اعتقالهم بعد ذلك بـ 11 يوما، وكان أقسى ما جرى فيها عدم تمكن أبو نصيرة من لقاء أمه وأبيه اللذين كان الشوق لهما سببا رئيسيا في هروبه.
وتعد عملية أبو نصيرة واحدة من بين 23 عملية هروب، نجحت من بينها 18 عملية فيما فشلت 5 أخريات، بينما بلغ عدد المشاركين الذين تم إحصاؤهم 235 أسيرا، بالإضافة إلى أعداد لم يتم إحصاؤها لكونها محاولات جماعية فاشلة، خلال الفترة منذ يوليو/تموز 1958 وحتى سبتمبر/أيلول الجاري، وفق توثيق الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عبدالناصر فروانة.
رصد الروتين اليومي للسجانين الإسرائليين
ويشير رمضان، المبعد إلى قطر بعد تحريره، إلى أن لون القضبان في الشبكة الحديدية كان أبيض، ما ساهم في إخفاء عملية البرد عبر طلائه بمادة "التبكس" (منعت لاحقا وهي عبارة عن مادة بيضاء تشبه الطلاء)، وتم قص القضبان بنسبة 80%، من أجل أن تبقى قائمة حتى الموعد المناسب للهروب، لكن المشكلة الأكبر تمثلت في مسافة تقدر بـ 25 مترا ما بين المبنى وجدار السجن، وتشمل ممرا لكلاب الحراسة الشرسة، ما جعلنا نفكر في الهروب عبر الحبال، وجمعنا بالفعل على مدار شهرين قطعا من القماش وقمنا بجدلها على شكل حبل سميك.
وصل الأسيران رمضان والرشق إلى حدود قطاع غزة رغم الملاحقة الأمنية الإسرائيلية، لكن عجز أحدهما عن القفز فوق السلك الفاصل مع دولة الاحتلال، ورفض الآخر التخلي عنه، أحبط عملية هروب كانت ستكون ناجحة حتى النهاية.
عقب رصد الثغرات، بدأ الأسير رمضان في تفكيك الروتين اليومي للسجانين وهندسة القسم
"في عمليات الهروب اللاحقة أصبح التنسيق مع طرف خارج السجن جزءا من استخلاص العبر، لكنه أمر ينطوي على مخاطرة في ذات الوقت، لأن الاتصالات مراقبة"، كما يعقب الكاتب في أدب السجون جمعة التايه والذي قضى 26 عاما في سجون الاحتلال.
صراع أدمغة
و"تتكون الخرسانة المسلحة المستخدمة في أرضية السجون والمنشآت الحساسة في الغالب من نوع B400 (قوة الباطون) على الأقل، وتختلف عن التقليدية B250، وهي صعبة الاختراق وتتحمل قوى الضغط، ووظيفة طبقات الحديد مقاومة قوى الشد، وهو ما يساهم في منع التشقق لفترات طويلة" كما يوضح البروفيسور في الهندسة المدنية بالجامعة الإسلامية محمد عرفة، لكن الأسير المحرر التايه يكشف أن قوة الخرسانة ليست معيارا مركزيا في عملية الحفر لأن الأمر لا يعتمد على مبدأ تحطيمها أو اختراقها بالقوة، وإنما من خلال النحت العمودي بأدوات حادة تُصنع داخل السجن.
ويؤكد الأسير المحرر والمختص بالشأن الإسرائيلي عصمت منصور والذي قضى 19 عاما في الاعتقال، أن السجون المركزية التي شيدت خلال الانتفاضة الثانية (بعد عام 2000) راعت أن يكون القسم بشكل مستطيل ومن طابق واحد فقط، بسبب تكرار عمليات الهرب من الطوابق الثانية التي عادة ما تكون في مقابل الجدران، ويعقب المحاضر في الهندسة المعمارية بالجامعة الإسلامية أحمد الأسطل على ذلك بأن "الخرسانة القوية هي أحد المعايير في بناء المنشآت الحساسة مثل السجون، لكن المسألة الأكثر تعقيدا تتمثل في التصميم الهندسي: توزيع الغرف والمرافق ومساحتها والجدران والفراغات بينها".
تصنيف الأسرى.. الهروب كمعيار
يشير منصور إلى أنه بالإضافة للاعتبارات المتعلقة بمنشأة السجن، يعمل الاحتلال على تقسيم السجون وفق تصنيفات عدة: السجون المركزية وهي التي تقع داخل الأراضي المحتلة عام 1948 وتخصص لأصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، والمعتقلات وتضم سجني عوفر القريب من رام الله وسجن مجدو القريب من جنين، وتم تخصيصهما لمن تبقى له أو من المتوقع أن يحكم أقل من 15 عاما".
"بالإضافة إلى التصنيفات السابقة، هناك أخرى للأسرى بمعايير تتعلق بمحاولات الهروب، فمثلا يعرّف الأسير الذي حاول الهروب بـ"سجاف" وهو اختصار لجملة "إمكانية (خطر) الهرب عالية، وهذا النوع ينقل لسجون محصنة، ويخضع لمستوى عال من الرقابة وتقييد الحركة والعقوبات مثل منع زيارات الأهالي أو التقليل منها، ويتم نقلهم بين الغرف والأقسام بشكل دوري وأحيانا مفاجئ" كما يوضح منصور في إفادته لـ"العربي الجديد".
تتكون الخرسانة المسلحة المستخدمة في أرضية السجون والمنشآت الحساسة في الغالب من نوع B400 (قوة الباطون) على الأقل
ويوضح أسير محرر أمضى في سجون الاحتلال 17 عاما، فضل عدم الكشف عن اسمه حتى لا يتعرض للملاحقة، بعدما شارك من قبل في عمليتي حفر أنفاق داخل السجون، أن المرحلة الأولى هي التي تحدد خارطة الطريق للعملية، وتتضمن في أحد جوانبها دراسة للثغرات التي تسببت في فشل عمليات سابقة، موضحا في مقابلة مع "العربي الجديد": "اكتشاف إدارة السجون فكرة التخلص من التراب في المرحاض بعد انسداد إحدى فتحات الصرف، دفع الأسرى لابتكار طرق جديدة من بينها إبقاء التراب داخل النفق بعد تعبئته في أكياس ورشه بالماء بهدف تقليل حجمه، ومن ثم تعبئته في أكياس وهذا يساهم في التقليل من حجم الحيز الذي يحتاجه، وخلال عملية الحفر يتم أحيانا إخراج جزء من الأكياس للغرفة وعند الانتهاء تتم إعادته، وأدى انهيار بعض الأنفاق بسبب التربة الرملية الموجودة في أماكن تشييد عدد من السجون، إلى قيام الأسرى بالحفر بشكل دائري، وهكذا تتطور عمليات الحفر مع كل عقبة أو فشل.
ويشير في تفسيره لأسباب نجاح عملية هروب ستة أسرى من سجن جلبوع في 6 سبتمبر إلى وجود تمويه وخداع لقواعد الإدارة الأمنية للسجون الإسرائيلية، وما دعم تلك العملية قلة احتمالات هروب أسير موقوف من المتوقع أن يفرج عنه بعد عدة أشهر، كما في حالة مناضل نفيعات، أحد المشاركين بالعملية، يضاف إلى ذلك وجود أسير من حركة فتح وهو زكريا الزبيدي مع خمسة أسرى من الجهاد الإسلامي، وبشكل تقليدي تعتبر هذه العمليات أسرارا خاصة بالمجموعة التنظيمية، ودرج غالبية المشاركين في عمليات الهروب السابقة على أن يكونوا من نفس الفصيل.
"كما أن وجود ثلاثة أسرى تحت تصنيف "سجاف" في نفس الزنزانة يضاعف الإجراءات الأمنية حولها من حيث مراقبة السجانين والتفتيشات بحسب المصدر السابق، والذي يعتقد أن النظام الأمني الإسرائيلي اعتمد على تفسيرات جاهزة وتقليدية في هذا السياق، لذا كان الفشل الذي يتحدثون عنه.