لم تدرك الثلاثينية الأردنية لارا شعبان حجم وصور المعاناة اللازمة للحصول على فرصة عمل في مهنة التجميل، إذ تدرّبت بلا أجر لمدة 6 أشهر في صالون بعمّان، كما دفعت 300 دينار (423 دولاراً أميركياً) لتحصل على شهادة توثق مدة تدريبها، وقدمتها في يونيو/ حزيران عام 2019 إلى مكتب العمل في منطقة العبدلي وسط العاصمة، من أجل تصديقها، تمهيداً للتقدّم إلى امتحان مزاولة المهنة، غير أنها فوجئت باشتراط المكتب ضرورة وجود شهادة خبرة مدتها عامان على الأقل حتى تستطيع التقدم إلى الاختبار (النظري والعملي) قبل منحها إجازة المزاولة، وفق ما جاء في تعليمات إجراء الاختبارات المهنية ومنح إجازة المزاولة التي نصّ عليها القانون.
لم يكن أمام شعبان غير خيارين للحصول على شهادة الخدمة، إما أن تعمل عامين دون أجر لدى صالونات تجميل اشترطت ذلك أو تدفع مبلغاً مالياً يتراوح بين 500 وحتى 1000 دينار أردني (ما بين 705 دولارات و1411 دولاراً)، وفق ما طلبته منها 3 صالونات تجميل.
سخرة الباحثين عن عمل
يعد قطاعا التجميل، والسلامة والصحة المهنية من أكثر مجالات العمل، التي تسجّل مخالفات الاتجار بشهادات الخبرة والتي تعدّ من شروط مزاولة المهنة، باعتبارهما الأكثر طلباً، وفق ما جاء في الرد المكتوب الذي حصلت عليه "العربي الجديد" من هيئة تنمية وتطوير المهارات المهنية والتقنية التي أنشئت في مايو/ أيار 2019، لاعتماد الترخيص لمزوّدي التدريب التقني والمهني واعتماد البرامج التدريبية وإصدار شهادات مزاولة المهنة.
ويستغل أصحاب العمل حاجة المتدرب من أجل تشغيله بلا مقابل، أو بيعه الشهادة، إذ تمكّنت معدّة التحقيق من الحصول على شهادة خبرة لمدة 3 سنوات من صالون تجميل في عمّان بالاتفاق مع المالكة، وبالفعل صدّقت الشهادة من مكتب العمل في منطقة العبدلي، ولم يمانع مركز آخر للتجميل في عمّان في منح معدة التحقيق شهادة خبرة لمدة سنتين أيضاً مقابل 400 دينار (564 دولاراً)، وتكرر الأمر ذاته في صالون ثالث طلبت مديرته 500 دينار (705 دولارات) مقابل شهادة الخبرة.
وهو ما يجسّد معاناة لارا التي لم تتمكن من توفير المبالغ المطلوبة لشراء الشهادة، كما أنها لا تستطيع العمل بلا أجر لعامين لصعوبة وضعها المادي، لتبقى عاطلة عن العمل حتى اليوم.
ويقرّ الدكتور قيس السفاسفة، مدير الهيئة، بوقوع تجاوزات للقانون، مضيفاً "تعمل الهيئة على التصدي لها من خلال تطبيق قانون تنمية وتطوير المهارات المهنية والتقنية لعام 2019، والذي فرض أسساً واضحة لمعاقبة أي شخص يسيء استخدام التعليمات"، معتبراً أن الضرر الأكبر يقع على المتدرب في حال لجأ إلى شراء شهادة الخدمة أو شهادة من أكاديمية تدريبية خاصة، ليتقدم إلى امتحان مزاولة المهنة، لأنه لن يكون مؤهلاً بشكل فعلي.
5000 شهادة خبرة جرى رفضها في النصف الثاني من عام 2020
تفشي تجارة الشهادات
رفضت الهيئة اعتماد 5000 شهادة خلال النصف الثاني من العام المنصرم، لثبوت عدم التزام مزوّدي التدريب بتعليمات الهيئة لضمان جودة المخرجات التدريبية، بينما اعتمدت 8000 شهادة، وفق ردّها.
ويثبت ذلك ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد" بأن تجارة الشهادات لا تنحصر في صالونات التجميل، إذ تنتشر في أكاديميات تدريب خاصة (تختص بعقد برامج التدريب المهني والتقني) أيضاً، إذ قبلت أكاديمية للتدريب المهني في عمان منح معدّة التحقيق شهادة دبلوم جرافيك دون التزام بالحضور والمشاركة في البرنامج التدريبي، مقابل دفع مبلغ من المال يحدّده المدير عند الاتفاق، بحسب ما قال.
وفي أكاديمية للتجميل (معتمدة لتنظيم البرامج التدريبية) توصلت معدة التحقيق إلى اتفاق مع المديرة كي تدرج اسمها في برنامج تدريبي لدرجة (حلاق ماهر)، حتى تمرره إلى الهيئة ضمن قائمة المتقدمين لامتحان مزاولة المهنة، دون أن تتقيد بالحضور والمشاركة، مقابل 700 دينار (987 دولاراً).
لكن رئيس النقابة العامة لأصحاب أكاديميات التجميل أيمن طعاني يقول إن ظاهرة الاتجار بالشهادات: "موجودة للأسف، ليس فقط لدى أكاديميات التجميل بل في جميع الأكاديميات التدريبية، وكانت منتشرة بشكل أوسع قبل تأسيس الهيئة، حينئذ، كان مجلس الاعتماد وضبط الجودة مسؤولاً عن الأكاديميات، وثبت أن موظفين في المجلس كانوا يسهلون لأصحاب أكاديميات تمرير شهادات لطلبة لم يلتحقوا بالبرامج التدريبية فعلياً ولم يجر تأهيلهم، وأحيل أولئك الموظفون إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، ثم أُلغي دور المجلس وتأسست الهيئة برئيس جديد وموظفين جدد، وأصدرت أنظمة لضبط عمل الأكاديميات الخاصة"، لكن المشكلة الحقيقية تبقى مع الجهات التي تبيع شهادات الخبرة، كما يقول طعاني، مؤكداً ضرورة أن تكون هناك آلية لمنعهم من ذلك، خاصة أن القانون ينصّ على أنه: "يمنح إجازة المزاولة في مستوى العامل الماهر من توافر فيه أي مما يلي: استكمل بنجاح برنامجاً مهنياً معتمداً، أو حصل على الشهادة الثانوية المهنية، أو شهادة خدمة لمدة سنتين في مزاولة المهنة، على أن لا يقل العمر عن 18 ويجتاز الاختبار المهني بنجاح، أو شهادة خدمة لمدة سنة واستكمال متطلبات برنامج مهني معتمد بمستوى محدد المهارات".
معضلة عامي الخبرة
لا تقتصر الظاهرة على شهادات الخبرة في المهن التي لا تتطلّب شهادة جامعية، إذ يلجأ أردنيون إلى شراء شهادات خبرة من أجل التقدم إلى وظائف في منشآت خاصة، تشترط وجود خبرة تزيد على عامين، أو للعمل خارج الأردن، هروباً من الوضع الاقتصادي الصعب.
ومن هؤلاء العشريني محمد الشريف الذي استمر في بحث دؤوب عن عمل منذ تخرجه في جامعة عمّان الأهلية، عام 2016، وقصد الشريف الذي درس المحاسبة شركات ومؤسسات كثيرة في القطاع الخاص طلباً للعمل، لكن عدم امتلاكه شهادات الخبرة المطلوبة حال دون الحصول على الوظيفة، ما دفعه إلى العمل بمشورة صديقه بأن يبتاع شهادة خبرة من شركة خاصة في شارع الجامعة بعمّان، لحل مشكلته، وفعلاً منحه مالك الشركة شهادة خبرة لمدة 3 أعوام، مقابل 300 دينار (423 دولاراً)، ليتمكن من الحصول على وظيفة، بينما اختار العشريني رامي عدنان، بعدما أنهى دراسة الهندسة المدنية، العمل مدة شهرين في شركة خاصة دون راتب، مقابل منحه شهادة خبرة لمدة عامين، لعدم قدرته على دفع ثمنها.
ويعزو أحمد عوض، مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية (مؤسسة بحثية غير حكومية)، لجوء الباحثين عن عمل، خاصة حديثي التخرج، إلى وسائل غير قانونية لشراء شهادات الخبرة العملية إلى: "عدم الدمج بين النظام التعليمي والتدريب العملي والذي سيعزز حتماً من مهارات الخريجين وإن لم ينخرطوا في سوق العمل بعد، دون أن يضطروا إلى اللجوء لطرق غير قانونية تحت ضغط ندرة الوظائف وارتفاع معدل البطالة، الذي يدفع الأردنيين إلى سماسرة الشهادات"، مضيفاً: "شروط توظيف القطاع الخاص في الأردن صعبة، نظراً لحاجته إلى كوادر ماهرة، لكن هذه المتطلبات تدفع كثيراً من الأشخاص للحصول على تلك الشهادات في مقابل المال".
إخفاق النظام التعليمي في تفعيل التدريب العملي يفتح المجال لسماسرة الشهادات
وتزايد معدل البطالة في الأردن ليصل إلى 24% في الربع الرابع من عام 2020، بينما كان 19% خلال نفس الفترة من عام 2019، بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة.
وأفرزت الظروف المعيشية الصعبة ومتطلبات الحصول على مزاولة المهنة ظاهرة "تأجير الشهادات"، بحسب ما وثق التحقيق لحالات 5 خريجين يحملون شهادات في الهندسة والصيدلة والبصريات، ومنهم ريما النيص التي أنهت دراستها في تخصص البصريات عام 2016 ولم تجد عملاً مناسباً لتحصيل الخبرة اللازمة التي تؤهلها إلى التقدم لامتحان مزاولة المهنة، والحصول على الشهادة، ما دفعها إلى تأجير شهادتها لشخص لا يمتلك المؤهل المطلوب لفتح محل بصريات في إربد مقابل منحها 200 دينار شهرياً (282 دولاراً).
المتاجرة بشهادات "الآيلتس"
عانى معلم اللغة الإنكليزية عصام حمودة بسبب تجربة عمل مريرة نتيجة "جشع بعض أصحاب المدراس الخاصة التي عمل فيها فترات قصيرة" في عمّان، كما يقول، فقرّر السفر للعمل في دبي بداية عام 2020 عن طريق شركة توظيف خاصة، لكنها اشترطت أن يكون حاصلاً على شهادة الآيلتس.
لم يكن لدى حمودة الوقت الكافي للالتحاق بدورات وإجراء الاختبارات اللازمة للحصول على الشهادة، فاتبع ما قام به صديقه إبراهيم جابر والذي حصل على شهادة آيلتس في أغسطس/ آب عام 2018 عبر سمسار أردني على علاقة بشخص لديه حساب على واتساب برقم هاتف بريطاني، باسم كاستر ويليامز ويدّعي أنه بريطاني، ويؤمن شهادات آيلتس لا يمكن اكتشاف تزويرها مقابل 300 دينار (424 دولاراً)، ويرفض السمسار الأردني الإفصاح عن أي معلومات تتعلق بويليامز الذي يتواصل الزبائن معه عبر واتساب، ويسأل عن الدرجة المطلوبة. بينما يتولى السمسار الأردني تقاضي المبلغ المطلوب من مشتري الشهادات. وهو ما حدث مع معدة التحقيق التي تواصلت مع الرقم، ليطلب كاستر بياناتها والدرجة المطلوبة لإعداد شهادة لها.
ولا يتم اكتشاف أمر تلك الشهادات، وفقاً لتوضيح عدي أبو جود؛ موظف في مكتب النخبة الخاص للتوظيف في عمّان: "لأن شركات التوظيف ليست مهمتها التوثيق والتأكد من مصداقية الشهادة التي يقدمها الباحثون عن عمل"، قائلاً لـ"العربي الجديد" إن الباحث عن عمل يقدم إلى المكتب الأوراق اللازمة، ومن ضمنها شهادات الخبرة وشهادات اللغة الإنكليزية، لكن لا يمكن التحقق من صحة الشهادات، "المهم أن تكون صادرة عن جهات معروفة ومختومة في ظل عدد الطلبات والوثائق الهائل".