بدأت نواة تنظيمات القوميين الأوكران في روابط مشجعي كرة القدم المعروفة بالألتراس، والتي ما لبثت أن انخرطت في القتال الدائر بين موسكو وكييف، بينما تطورت هويتها وخطاباتها عدة مرات وصولاً إلى نموذج يميني محافظ.
- قاتل الثلاثيني الأوكراني فيتالي أو. مشجع نادي شاختار دونيتسك، (يلعب بالدوري الممتاز ويملكه رينات أخميتوف أثرى رجل أعمال في البلاد)، ضمن إحدى كتائب المتطوعين القومية في مدينة دونيتسك بعد بدء الحرب في منطقة دونباس الواقعة شرق أوكرانيا وتضم مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك عام 2014، وبعد مرور أعوام واندلاع القتال مرة ثانية في فبراير/ شباط الماضي، استكمل فيتالي الذي فضّل عدم ذكر اسمه كاملاً لاعتبارات أمنية خاصة بسيطرة الروس على بلدته، مشاركته في قتالهم ولكن ضمن صفوف الجيش هذه المرة.
يتذكر فيتالي كيف أن قسماً كبيراً من القوميين الأوكران كانوا في البداية موالين لروسيا إلى حد كبير، ويقول في حديث لـ"العربي الجديد": "في الماضي، كان يمكنك أن تسمع بين القوميين الأوكران شعارات من قبيل "الروس إلى الأمام"، لكن الوضع تغير منذ الثورة في عام 2004، وقتها تغير وعينا بشكل كبير".
ولعب مشجعو نادي كارباتي لفيف، الموجود في غرب أوكرانيا ويلعب في الدوري الممتاز، دوراً مهماً في ذلك، إذ كنا ننتمي إلى معسكرين مختلفين، ولكننا لم نكن نتعارك مع مشجعي "كاربات" أبداً، اعتقاداً منا بأن مثل هذه الحوادث سيستثمرها الساسة"، و"يمكن وصف الفترة بين أعوام 2005 و2012 بأنها الحقبة الذهبية للكرة الأوكرانية. إذ كنا نسافر ونستقبل ضيوفاً كثراً. لذلك وقعت تحولات ولم نصبح موالين لروسيا، بل اندمجنا في الحياة الاجتماعية الأوكرانية".
وتختلف حركات ألتراس مشجعي كرة القدم عن الكتائب القومية المتشددة الشهيرة مثل "آزوف"، كما يتابع فيتالي قائلاً: "ألتراس المشجعين لامركزية، كما أن "آزوف" ذات درجة أعلى من التسييس"، ويتابع: "التحقت الأغلبية الساحقة من المشجعين القوميين بعد بدء أعمال القتال في دونباس بكتائب المتطوعين، وحتى مشجعو نادي "أرسنال" في كييف الذين كانوا يتبنون مواقف يسارية، التحقوا آنذاك بكتيبة "آزوف" بعد أن نأوا بأنفسهم عن الخلافات السياسية في زمن الحرب، واختاروها لتميزها بقلة الإجراءات البيروقراطية، ولم يكن عناصرها يسرقون من بعضهم البعض، وكان يسودها نظام صارم. بعكس السلوك والثقافة السوفييتيين السائدين في الجيش الأوكراني".
نواة الحركات القومية الأوكرانية
تشكلت نواة الحركات القومية الأوكرانية والتي باتت تسترشد بالحركات اليمينية المتشددة في أوروبا عبر مشجعي كرة القدم غير المسيسين كما يؤكد الباحث المختص في شؤون دونباس والمتعاون مع مركز "كارنيغي" في موسكو (جرى إغلاقه بعد 28 عاماً من العمل في إبريل/ نيسان الماضي)، قسطنطين سكوركين، لـ"العربي الجديد"، ويضيف: "ظهرت قوى قومية من الجيل الجديد تسترشد بالحركات الأوروبية الشبيهة، احتضنت مشجعي كرة القدم الذين أصبحوا واحدة من القوى الضاربة للثورة الأوكرانية في منتصف العقد الثاني من القرن الـ21. وكانت من ملامح تلك الفترة المشاركة النشطة للشباب الناطقين بالروسية من جنوب شرق البلاد في هذه الحركات".
تشكلت نواة الحركات القومية الأوكرانية عبر روابط مشجعي كرة القدم
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد كما يكمل ويؤكد الباحث في شؤون الحركات الراديكالية الأوكرانية فياتشيسلاف ليخاتشوف عضو مجلس الخبراء بمركز الحريات المدنية (منظمة مجتمعية في أوكرانيا)، مشيراً هو الآخر إلى أن مشجعي كرة القدم من منطقة دونباس الناطقة بالروسية أظهروا بعد عام 2014 ولاء للهوية الأوكرانية، وأصبحوا يتحولون حالياً إلى نموذج يميني محافظ أكثر منه متطرفاً.
ويتابع في إفادته لـ"العربي الجديد": "شكل مشجعو كرة القدم الأوكرانيون والروس في نهاية تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الـ21 وسطاً موحّداً ذا توجهات نيونازية إلى حد كبير، ولكن على مستوى الأسلوب أكثر منه آراء سياسية، ومع انتشار الإنترنت، بات المشجعون الأوكرانيون يستنسخون سلوك زملائهم الروس، بما في ذلك أعمال العنف بحق أبناء القوميات الأخرى، ضمن ما يمكن وصفه بالترحيب بتقليد الروس".
ويعتبر تبني مشجعي كرة القدم من دونباس مواقف مولية لكييف أمراً طبيعياً بحسب ليخاتشوف، موضحاً أنهم: "كانوا يسافرون بين مدن أوكرانيا فترسخت صورة البلاد في أذهانهم واطلعوا عليها بشكل أكبر كثيراً مقارنة مع السكان العاديين في مقاطعة دونيتسك أو لوغانسك، وساهم ذلك في ارتباط هويتهم ببلدهم وليس بإقليم بعينه رغم الانتماء الإقليمي الذي يتميز به المشجعون".
وجرى إضفاء البعد القومي على مشجعي الكرة بعد انتخاب الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش عام 2010، كما يقول ليخاتشوف، مشيراً إلى أنه "في عهد يانوكوفيتش، بدأ تلقين حركة مشجعي كرة القدم بمفاهيم القومية الأوكرانية، لكن في مقابل عدم توفر قاعدة شعبية لحركات حليقي الرؤوس وسيادة البيض في أوكرانيا، شكلت القومية لغة رمزية قوية لمواجهة قمع الدولة وقتها".
وتعد أحداث "الميدان الأوروبي" في نهاية عام 2013 وبداية 2014 والتي أطاحت يانوكوفيتش، لاسيما بعد دخولها مرحلة الاشتباكات مع عناصر الأمن، نقطة تحول مجموعات المشجعين ودمجهم في كتائب القوميين والتي دفعتهم إلى المشهد الأمامي، لتعبئتهم سريعاً ضمن صفوف المتطوعين بعد بداية الحرب مع روسيا في عام 2014، وفق ما رصده الباحث ليخاتشوف، والذي لفت إلى تطور هؤلاء من بيئة النازيين الجدد الشبيهة بمجموعات حليقي الرؤوس إلى نموذج يميني محافظ لا يكترث إلى النمط الظاهري، بسبب الحرب التي يمكن القول إنها قللت من رهاب الإسلام والقوقاز، لأن هناك مسلمين ومنحدرين من القوقاز يقاتلون إلى جانبهم.
قوميون روس يدعمون أوكرانيا
يعتبر الزعيم السابق لحركة "حدود الشمال"، وهي واحدة من أقدم الحركات القومية المسجلة في روسيا والمحظورة بموجب قرار قضائي منذ عام 2016، أليكسي كوليغوف، أن القوميين الروس والأوكرانيين يجمعهم الانتماء للحضارة الأوروبية، لافتاً إلى أن القوميين الروس يدعمون نظراءهم الأوكرانيين في فكرة إقامة الدولة القومية.
ويقول كوليغوف في حديث لـ"العربي الجديد": "السمة المشتركة الرئيسية بين القوميين الروس والأوكرانيين أنهم يعتبرون أنفسهم جزءاً من الحضارة الأوروبية ولهم أصول سلافية مشتركة، ويرون أن وطنهم التاريخي هو "كييف روس"، كما أن تشابه اللغتين يتيح للقوميين الانتقال من مجموعة إلى أخرى، وأتذكر بضعة أمثلة لاختلاط المنظمات القومية، لتصبح روسية أوكرانية".
ومن بين أشهر القوميين الروس ممن وقفوا إلى جانب أوكرانيا في مواجهة موسكو منذ عام 2014، العنصر بحركة "ريستروكت" القومية الروسية، رومان جيليزنوف، والذي التحق بكتيبة "آزوف" والصادر بحقه حكم بالسجن في روسيا لمدة ثلاثة أعوام ونصف العام بتهمة "الارتزاق".
القوميون الروس والأوكران يرون أنفسهم جزءاً من الحضارة الأوروبية
ويلفت كوليغوف إلى أن أغلب القوميين الروس يدعمون نظراءهم الأوكرانيين في مسألة إقامة الدولة القومية، مضيفاً: "يعتبر القوميون الروس السلطة الحالية في موسكو امتداداً لخانية القبيلة الذهبية أو الخاقانية (إمبراطورية مغولية كانت تشغل الأراضي الحالية لكازاخستان وسيبيريا وشرق أوروبا بين القرون 13 و15 الميلادية)، وأن الروس لا يحكمون فعلياً الدولة، وفي الآونة الأخيرة، يدعم قوميون روس وجهة النظر هذه ومفادها أن الروس لا دولة لهم، فيدعمون القوميين الأوكرانيين لتحقيق ذلك".
ومع ذلك، يشير إلى أن قسماً من القوميين الروس يدعمون الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سياساته التوسعية، قائلاً: "هناك منظمات بعينها للقوميين الروس يعتبرون بوتين مسيحاً للدولة، ويؤمنون بأن الرئيس يقوم بكل ما بوسعه لتوسيع "العالم الروسي" في حدود الإمبراطورية الروسية أو الاتحاد السوفييتي. لكن تسمية هؤلاء بالقوميين ليست دقيقة، بل هم يمثلون، على الأرجح، مجموعات ملكية وما بعد سوفييتية".
في المقابل يتابع كوليغوف قائلاً: "انضم القوميون الروس المعارضون لـ"العملية الخاصة" في أوكرانيا إلى جبهة الحقوقيين والليبراليين، مناهضي الحرب والداعين إلى إحلال السلام في أوكرانيا في أسرع وقت وسحب القوات إلى حدود عام 2014، وهذا قسم كبير بين القوميين الروس لكنهم لا يستطيعون التعبير عن مواقفهم علناً، ولكنني أعتقد أنهم سيكشفون عن أنفسهم عندما ستصبح العقوبات وتداعيات فشل "العملية الخاصة" ملموسة".
حرب إعلامية روسية
كيف تناول الإعلام الرسمي والقريب من الدولة في موسكو النزعة القومية في أوكرانيا؟ للإجابة عن السؤال، رصد معد التحقيق في موسكو مجموعة من الأمثلة الدالة، منها مقال نشر بموقع وكالة "نوفوستي" الحكومية الروسية مطلع إبريل/ نيسان الماضي تحت عنوان "ماذا يجب أن تفعله روسيا مع أوكرانيا"، دعا كاتبه إلى "عدم التفرقة بشكل كبير بين القوات المسلحة الأوكرانية وما يسمى الكتائب القومية وتشكيلات الدفاع الإقليمي التي انضمت إليهما، فجميعهم لهم ضلوع في القسوة البالغة بحق السكان المدنيين وإبادة الشعب الروسي وعدم الالتزام بقوانين الحرب وأعرافها".
كلام يكرره بلغة واضحة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، والذي اعتبر في أحد حواراته مع قناة "أر تي" الروسية الموجهة إلى الخارج في مارس/آذار الماضي، أن "فكرة إقصاء الروس من أوكرانيا لا تزال تشغل أفكار سياسيي هذا البلد"، ضارباً مثالاً بحديث زعيم حزب "سفوبودا" ("الحرية") القومي، أوليغ تياغنيبوك، عن "نزع الروسية". إلا أنه عبر البحث على موقع وزارة العدل الأوكرانية يظهر أن "سفوبودا" هو مجرد واحد من أصل 365 حزبا مسجلا في أوكرانيا ومتمثل في الرادا العليا (البرلمان الأوكراني) بنائب واحد فقط!.
وتعليقا على ترويج الدعاية الروسية لانتشار النازية في أوكرانيا، يقول المنظر السياسي، والأستاذ بمدرسة موسكو العليا للعلوم الاجتماعية والاقتصادية، إيليا بودرايتسكيس، في حديث لـ"العربي الجديد": "توالت الأجيال وترسخت صفة شر مطلق حول النازية وبهذه الصفة تحديدا، اختُلق تبرير الحرب من جانب روسيا".
وحول دلالات مفهوم "نزع النازية" كما يراها الكرملين، يضيف: "يعني المفهوم البوتيني لـ"نزع النازية" بالدرجة الأولى أن الحرب ليست مقبولة فحسب، بل ضرورية أخلاقيا أيضا، لا أنصاف نغمات في الحرب على النازية ولا أهمية لثمن النصر، إذ لا يمكن التوصل إلى اتفاق سلام أو حل وسط في الصراع بين الخير والشر، لأن النازية لا تلتزم بأي قوانين إنسانية، ولذلك لا تنطبق أي حقوق على النازيين أنفسهم، لا حديث مع النازيين، بل يتم القضاء عليهم، شأنهم في ذلك شأن الإرهابيين".