استمع إلى الملخص
- تزامنًا مع المبادرة، وقع هجوم إرهابي في أنقرة، مما أسفر عن مقتل أربعة وإصابة 14، ويثير تساؤلات حول المستفيدين من توقيته، ويعكس التوترات المتصاعدة في تركيا.
- نجاح المبادرة قد يفتح المجال لدعم كردي في صياغة الدستور الجديد وترشح أردوغان لولاية ثالثة، مما يعزز فرص السلام والاستقرار في المنطقة.
أتى الرد سريعاً وخطيراً على مبادرة زعيم حزب الحركة القومية، دولت باهتشلي، الرقم الصعب في معادلات السياسة التركية منذ عقود والحليف الأبرز للرئيس رجب طيب أردوغان، بعدما دعا مؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، المحكوم بالسجن المؤبد المشدّد، للانخراط في جهود مواجهة الإرهاب والطلب من مقاتليه إلقاء السلاح وإلغاء الحزب، في مقابل السلام واستفادته من "الحق في الأمل"، أي السماح لمن هم في وضع عقابي شبيه باستعادة حريتهم، وفق ما تنص عليه المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي تحظر أحكام السجن لأجل غير مسمى وتحددها بـ 25 عاماً.
سياسياً تراوحت تعليقات رؤوساء أحزاب المعارضة ما بين الترحيب والتأييد الحذرين، في مقابل الرفض التام والهجوم العنيف من عدة خصوم أبرزهم موسافات درويش أوغلو، رئيس حزب الجيد المنافس الأقوى لباهتشلي على أصوات كتلة اليمين القومي، والذي قدم أداء مسرحياً وحمل بيده حبلاً خلال إلقاء كلمته أمام المجموعة البرلمانية لحزبه، قائلاً لرئيس الحركة القومية: "خذ هذا الحبل، وعلّقه الآن على رأسك"، في إشارة لرفضه سابقاً عقوبة سجن أوجلان ومطالبته بإعدامه.
عموماً، لا جديد يذكر في هذه المناكفات المكرورة ضمن وقائع اللعبة السياسية التركية الحية، والتي لا يملك المرء، خاصة لو كان عربياً ليس لديه صوت انتخابي ولا حتى انتحابي، إلا الإعجاب بها. على كلٍّ جاءت الإشارة الأكثر أهمية وتأثيراً من أوزغور أوزال، رئيس حزب الشعب الجمهوري، الخصم الأبرز لـ"العدالة والتنمية"، الحزب الأكبر في تحالف الجمهور الحاكم، والذي قال إن "حزبه سيدعم بشكل كامل إنهاء الإرهاب، بشرط أن تتم العملية من خلال البرلمان، وبمشاركة جميع الأطراف، وأن يتمتع 26 مليون كردي في تركيا بحقوقهم على قدم المساواة مع باقي المواطنين".
غير أن الانعكاس الأخطر لتلك المبادرة، ووقع كذلك خلال أقل من 24 ساعة، خرج على شكل هجوم إرهابي على شركة صناعات الطيران والفضاء "توساش" في أنقرة، في ظل تصاعد هذه التفاعلات المؤثرة على تركيا داخلياً، وكذلك خارجياً على مستوى علاقاتها في الإقليم، وتحديداً جيشها الموجود في سورية والعراق، وحربها في البلدين على "العمال الكردستاني" وامتداداته المحلية.
حتى اللحظة لم تتبن جهة بعنيها الهجوم، لكن ابحث عن المستفيد من التوقيت والهدف والمكان، حتى يمكنك ربط خيوط المشهد، فليس من قبيل المصادفة أن تبعث جهة ما برسالة عبر الرصاص (قتل أربعة أشخاص وأصيب 14 آخرون) من أجل تخريب إعلان عن محاولة لحل صراع يستنزف تركيا ويعقد من علاقاتها عربياً ودولياً، بعد التمهيد له عبر مفاوضات بالتأكيد ليست وليدة اللحظة، وإن كان توقيت الكشف عن تقدمها وتطورها فاجأ الجميع، وكانت أول مظاهره مصافحة باهتشلي بداية الشهر الجاري أعضاء حزب DEM المقرب من أوجلان، في اجتماع للبرلمان التركي عُقد بمناسبة بداية العام التشريعي الجديد.
ومن ثم تلقى زعيم حزب العمال الكردستاني، أول زيارة له "منذ 43 شهراً"، حسبما أفاد ابن أخيه في تغريدة نشرها على صفحته على موقع إكس، في اليوم ذاته (الأربعاء) الذي وقع فيه الهجوم الإرهابي، بعد ساعات من إعلان زعيم "الحركة القومية" عن مبادرته، وكأن هناك من يحاول استباق وتخريب عملية التمهيد التي يقوم بها باهتشلي، والموجهة بالأساس إلى جماهير حزبه وتحالفه الحاكم والشعب التركي من أجل جذب تأييدهم إلى هذا المسار في انعطافة كبيرة تشهدها مسيرته، بعد معارضته محاولات شبيهة.
أبرزها ما وقع في عام 2011 عقب الكشف عن تسجيلات سربت وقتها، وتحدثت عن أن مسؤولين كباراً في المخابرات التركية عقدوا اجتماعات سرية مع "العمال الكردستاني" في أوسلو، الأمر الذي أدانته قطاعات كبيرة من المعارضة القومية، وكذلك المحاولة التالية التي قادها "العدالة والتنمية" خلال الفترة من عام 2013 بعدما أعلن أوجلان، في 21 مارس/آذار في العام ذاته، عن وقف إطلاق النار بشكل أحادي الجانب، وطالب المقاتلين في الحزب بالانسحاب من تركيا إلى العراق واستمرت حتى عام 2015، عبر التفاوض المباشر بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، ووقتها تشكلت لجنة حكماء من مثقفين وفنانين وصحافيين أتراك وكرد للترويج للحل السلمي، لكن تصاعد الاستقطاب ومن ثم وقع تسميم للمناخ السياسي وانهارت المفاوضات.
على مستوى الهدف، ماذا يحمل هذا الهجوم من رسائل؟ "توساش" من أبرز شركات الدفاع والطيران في تركيا، والغريب أن يتمكن المهاجمان (رجل وامرأة) من الوصول إليها بسهولة، إذ تعمل على مشروع إنتاج KAAN، أول طائرة مقاتلة محلية الصنع، والتي تمثل أملاً كبيراً للأتراك في بديل محلي يخلصهم من الارتهان للشركات الغربية، خاصة أن قطاع الصناعات العسكرية المتنامي في البلاد صار محل فخر وإجماع الحكومة والمعارضة، لذا من يستهدفه وكأنه يرغب في استثارة هذه المشاعر التي ستتوجه بالتأكيد للعدو الأكبر، وهو "العمال الكردستاني" الذي سبق أن استهدف أنقرة عدة مرات بما للعاصمة من رمزية.
وهكذا يتم العمل على وأد المحاولة الجديدة لبلد نجح ساسته خاصة في مرحلة "العدالة والتنمية" بإدارة وترويض العديد من التناقضات الراسخة مجتمعياً، مثل عمق التدين الأناضولي وتطرف العلمانية الأتاتوركية والانتماء والحنين للعالم الإسلامي مع التطلع للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وعضوية حلف شمال الأطلنطي وتطوير علاقات وثيقة مع روسيا والصين وإيران، وتطبيق القواعد والمعايير الغربية في مختلف مناحي الحياة مع اتفاق شعبي ورسمي على أن الغرب يحيك المؤامرات ضد تركيا ويستهدف تقسيمها، كما يقول السفير المصري السابق في أنقرة، عبد الرحمن صلاح في مذكراته عن فترة عمله في أنقرة حتى عام 2013، لكن بالرغم من هذه النجاحات يكاد الملف الكردي أن يكون حجر العثرة الوحيد الذي لم يتمكن الحزب حتى اليوم من إحداث اختراق كبير فيه، ثم إزاحته جزئياً أو كلياً رغم أنه وسع من الميزات والتسهيلات الاقتصادية والحقوق الثقافية واللغوية الكردية.
يخبرنا التاريخ أن محاولات إغلاق ملفات شبيهة (مثلاً حالة الجيش الجمهوري الأيرلندي والحركات اليسارية المسلحة في كولومبيا وغيرها) تواجه بعراقيل من الداخل والخارج، ما بين أجنحة وجهات ودول تستفيد من حالة الشقاق والصراع لمساومة وإشغال وإضعاف المنخرطين فيه واستغلال حاجاتهم إلى الدعم والتأييد.
وسبق أن حاول "العدالة والتنمية" قبل ما يزيد عن العقد ولم تحل القضية، إلا أن أوجلان لديه رمزية كبيرة ونفوذ وتأثير على كل المنخرطين في الأزمة، فعلى سبيل المثال لجأت إليه السلطات التركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، لإنهاء إضراب عن الطعام في سجون تركيا شارك فيه مئات المتمردين كانوا على شفير الموت، وانصاع المضربون على الفور للأمر بعد أن نقل شقيقه رسالة منه دعاهم فيها لإنهاء الإضراب، وهو ما أكد وقتها للسلطات نفوذ الزعيم الكردي، بعدما افترض البعض أنه تلاشى بفعل سنوات نفيه في سجن جزيرة إمرالي، ولا شك أن جهات داخل "العمال الكردستاني" وضعت في حسبانها ما أثير عن أنه سيدعو إلى إلقاء السلاح وخوض محادثات سلام، تتنافر مع مصالح المستفيدين من الحرب، لذا وجب الانتباه إلى هذه الأطراف للوصول إلى حل حتى لو كان كما يقول البعض من أجل فتح المجال لدعم كردي في صياغة الدستور الجديد، وترشح الرئيس أردوغان لولاية ثالثة لا يمكنه المضي إليها في ظل الدستور الحالي، وهو أمر لو صح فسيخرج الجميع منه رابحون لتنتهي الأزمة ويتوقف الصراع، ويصبح الأكراد بيضة القبان التي سيتنافس الجميع على مراضاتهم وصداقتهم، موالين ومعارضين، لتنتهي مرة واحدة سردية أن "لا صديق للأكراد إلا الجبال".