يضطر سوريون في ألمانيا إلى تحويل مساعدات لعائلاتهم عبر شبكات سماسرة تنشط في جمع أموالهم، بواسطة تنظيمات هرمية، يستفيد من عملها نظام الأسد المتحكم في سوق الصرف، لتوفير العملات الأجنبية، وتخفيف آثار العقوبات.
- يشدد الباحث والمحلل الاقتصادي السوري سمير طويل، على أهمية التمييز بين مسارين لعمليات التحويل المالي من ألمانيا إلى سورية، موضحا أنهما يضخان العملة الصعبة في اقتصاد النظام المتهالك ولا يمران عبر القنوات القانونية، الأول تتدفق عبره أموال اللاجئين ممن يرسلون حوالات لدعم عائلاتهم في البلاد عبر شبكات من السماسرة تجمع أموالهم في ألمانيا وتوصلها إلى أهلهم في سورية، والثاني وهو الأهم والأكثر فائدة للنظام، تمر عبره كميات أكبر من أموال شبكات التحويل ولا يقتصر فقط على إدخال العملات الأجنبية وإنما قد يشكل أيضا فرصة لتهريب أموال من سورية إلى الخارج خاصة بعد سلسلة العقوبات الأميركية والأوروبية على رؤوس النظام والعديد من رجال الأعمال المتورطين معه والمستفدين منه.
"كلا المسارين يسيطر عليهما النظام عبر القبضة الأمنية والتحكم في سوق الصرافة وتحويل الأموال"، يضيف طويل، مشيرا هنا إلى التعميم رقم 961/17 ص، الصادر عن البنك المركزي السوري، في الأول من يونيو/حزيران عام 2020، والذي يحظر على المواطنين السوريين نقل الأموال بين المحافظات إلا بالليرة السورية، على ألا يتجاوز المبلغ المحول 5 ملايين ليرة سورية وأن ينقل عبر شركات الصرافة المعترف بها من قبله.
ويوافقة في ذلك رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية، الدكتور أسامة القاضي قائلا بأن النظام السوري من خلال قراراته المتوالية حصر سوق التحويل بعدد لا يتجاوز 30 صرافا. لافتا إلى إغلاق شركات عدة ومنها ما أصدرته مديرية التراخيص في الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد عبر قرار إنهاء عمل ست شركات صرافة مرخصة استنادا إلى كتاب مصرف سورية المركزي رقم 2683/16/ص، الصادر في يونيو/حزيران 2020. وهو ما يعد ضمن سلسلة من قرارات هدفت لحصر الاستفادة من عمليات التحويلات وكل ما يتعلق بالدولار والعملة الأجنبية بشريحة من رؤوس النظام السوري، لتصب الفائدة العظمى مباشرة في جيوب متنفذي النظام وفق القاضي.
تنظيم هرمي
يعمل السوري أبو مازن (اسم مستعار تجنبا للملاحقة القانونية) في التحويل غير القانوني في مدينة ديسلدروف غرب ألمانيا منذ ثلاث سنوات، ويشرح اللاجئ الأربعيني مسارات شبكات التحويل قائلا: "هي عبارة عن سلسلة من حلقات متقطعة، أي كل شخص في هذه السلسلة لا يعرف سوى الشخص الأعلى منه"، مضيفاً: "المسألة هنا تسير بتسلسل هرمي، فأنا كسمسار تحويل لا أعرف سوى الشخص الذي يتسلم مني النقود بعد أن يحسم عمولتي وهو بدوره يقوم بذات العملية، مع من يتعامل معهم ولا أحد يعلم أين تنتهي تلك الأموال". ويضيف أن من يقودون عمليات التحويل غير القانوني، يعملون مع تجار الصرافة وتحويل العملات في سورية، قائلا: "من خلال عملي يمكنني القول إن عمليات تحويل الأموال إلى سورية والأردن ولبنان ومصر بطريقة غير قانونية تشكل نسبة معتبرة من إجمالي المبالغ المحولة بشكلٍ شهري".
ولا يوجد لدى الحكومة الفيدرالية معلومات موثوقة حول مدى انتشار سماسرة الحوالة الذين يعملون بشكل غير قانوني في ألمانيا، بحسب تأكيد عضو البرلمان الاتحادي الألماني، فرانك شيفلر، لافتاً إلى أن هذه الأنظمة غير القانونية تتجاوز آليات الإشراف التي تنظمها الدولة.
عمولة التحويل غير القانوني تصل نسبتها إلى 7% من المبلغ
ويعيش في ألمانيا أكبر عدد من اللاجئين بأوروبا، إذ وصل عددهم، إلى 1.8 مليون شخص، حتى مطلع عام 2020، 41% منهم سوريون، بحسب ما وثقه معد التحقيق عبر مكتب الإحصاء الاتحادي.
ولا تهدف عمليات تحويل الأموال عبر تلك المسارات الخفية إلى تحقيق أرباح للقائمين على تلك الشبكات بقدر ارتباطها بمخاطر أكبر مثل غسيل أموال عبر افتتاح شراء عقارات أو المشاريع الصغيرة والمتوسطة في الخارج، أو تهريب أموال من سورية، في ظل صعوبة ضبط تلك العمليات بحسب طويل والقاضي.
وجرى تحديد سورية بين البلدان ذات المخاطر الأعلى في عمليات غسل الأموال، بموجب قائمة الاتحاد الأوروبي 2021/37 والصادرة في 7 كانون الأول 2020، وتتزايد مخاطر عمليات غسل الأموال في ألمانيا، إذ ضبطت الشرطة 9764 حالة عام 2019 بينما جرى تسجيل 114.914 بلاغًا عن المعاملات المشبوهة بموجب قانون غسل الأموال، في حين سجلت الشرطة 8942 حالة عام 2020.
مبالغ ضخمة
من بين المتورطين في شبكات تحويل الأموال، السوريان أنور وعبدو سلطان وأحيل الأول إلى المحكمة في برلين بسبب نشاطاته، وعمل الشقيقان في الأسواق القديمة بمدينة حلب في تصريف الأموال الأجنبية والسمسرة، ولديهم شركة السلطان للصرافة والتي تعمل في مناطق النظام بحلب.
اعترف بأنور كلاجئ في ألمانيا في 23 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2015، وحينها نشر على صفحته على فيسبوك صورة لجواز سفر اللاجئ الخاص به الصادر في بوتسدام جنوب غرب برلين، وتتبّع معد التحقيق صفحة سلطان، ومن خلالها وثق صوره بالزي العسكري يحمل السلاح، برفقة مجموعات من شبيحة النظام، كما ظهر في فيديو موثق أثناء الاعتداء بالعصي على المصلين داخل مسجد في حلب، وهو ما دفع لاجئين إلى تداول ما يقوم به عبر وسم "قتلة لا لاجئين"، واتهموه بأنه واحد ممن زرعهم النظام في بلدان اللجوء لممارسة النشاطات غير الشرعية، وتشويه الفارين من محرقة الأسد.
إضافة إلى ما سبق وثق معد التحقيق حالة لسوري تمت إدانته بإجراء تحويلات غير قانونية عبر بيانات محكمة مانهايم التي قضت في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بالسجن عامين وتسعة أشهر على لاجئ ثلاثيني، بسبب نشاطه في مجال التحويل غير القانوني. وبحسب البيانات الصادرة عن الغرفة التجارية الجنائية في المحكمة، فإن المدان تورط في 124 عملية تحويل وثقها النظام البنكي الألماني وبلغ مجمل الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج 14 مليون يورو كانت عمولته عليها 20000 يورو.
وأقر المدان بالتهمة الموجهة له، وكان أجرى خلال الفترة من خريف 2019 إلى ربيع 2020، 184 عملية تحويل إلى الخارج، ضمن شبكة يديرها عدة تجار ينتشرون في ألمانيا وسويسرا. وينصبّ عملهم غالبا على عمليات التحويل ذات المبالغ الكبيرة. بحسب ردّ محكمة مانهايم على أسئلة "العربي الجديد"، موضحة أن القرار في القضية كان نهائيا، وأن هناك قضايا مماثلة في المحكمة الإقليمية لم يتم البتّ فيها بعد.
كيف تواجه ألمانيا الجرائم المالية؟
تقوم وحدة الاستخبارات المالية (FIU) بجمع وتحليل المعلومات الواردة من الكيانات الملزمة بهدف إنشاء روابط بين المعاملات المشبوهة والنشاط الإجرامي الأساسي من أجل منع ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويتم تمرير نتائج هذا التحليل وكذلك المعلومات ذات الصلة إلى سلطات إنفاذ القانون المختصة. وتخضع خدمة تحويل الأموال "المنظمة" بالكامل لإشراف مستمر من هيئة الرقابة المالية الفيدرالية الألمانية (BaFin) وفق أنظمة منع مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب على النحو المنصوص عليه في قانون غسل الأموال، كما تستند الملاحقة الجنائية أيضا إلى قوانين مثل القانون الجنائي أو قانون مراقبة خدمات الدفع أو قانون تعزيز نزاهة السوق المالي، أو قانون التسجيل والمعلومات المالية بشأن غسل الأموال، لذلك يخضع محوِّلو الأموال لعمليات تدقيق خارجية سنوية ويعتبر تحويل الأموال غير القانوني عملا إجراميا تلاحقه سلطات إنفاذ القانون. بحسب ردود وزارة المالية الألمانية والمكتب الفيدرالي للشرطة الجنائية على أسئلة "العربي الجديد".
سُجلت 8942 حالة غسل أموال في ألمانيا عام 2020
ويتم تحديد عقوبة التحويل غير القانوني عبر عدة عوامل وتتراوح بين المالية والجنائية، بحسب كل قضية وظروفها والأطراف المرتبطة بها، وفق ما أوضحه لـ"العربي الجديد"، المحامي باسم سالم، والذي يعمل مستشاراً قانونياً في قضايا اللاجئين، مضيقا :"في حال تصنيفها ضمن الجرائم الاقتصادية فإن العقوبة هنا تكون مالية تتراوح بين الغرامة التي يقدرها القاضي والسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، بسبب ممارسة نشاط مالي غير مصرح به. أما في حالات أخرى، فقد تصل العقوبة إلى 10 سنوات وفي بعض الأحيان قد تصل إلى المؤبد، إن ثبت وجود صلات بتمويل الإرهاب".
الحلقة الأضعف
يضطر اللاجئون إلى التحويل عبر هذه الطريقة رغم أن العمولة قد تصل إلى 7% من المبلغ تجنبا للمساءلة عن مصدر الأموال من قبل الجهات المختصة بتأمين المساعدات للاجئين، بحسب رامي السعيد (اسم مستعار خوفا من المساءلة القانونية) والذي يعمل في مجال التحويلات منذ عامين ونصف العام، موضحاً أن "اللاجئ أو طالب اللجوء في ألمانيا يحصل على 430 يورو وهو مبلغ موحد يحصل عليه كل لاجئ كمساعدة شهرية تضاف إلى مجموعة مساعدات كالسكن والتأمين الصحي، أما الأسر فمساعداتها لها حسابات أخرى، بحسب قانون المساعدات الاجتماعية الألماني HRZ .4، ومن غير الطبيعي وفقا للقانون أن يقوم لاجئ مثلا بتحويل مبلغ 500 يورو شهرياً، وهذا بالنسبة للدولة الألمانية مؤشر على أنه يعمل بشكل غير شرعي".
ويرصد السعيد ارتفاعا في قيمة الحولات الموجهة إلى سورية من 100 أو 200 يورو، لتصل إلى 2000 يورو، مرجعا ذلك إلى تحسن الدخل المادي للكثير من اللاجئين بعد اندماجهم في سوق العمل، وبالتالي يضطرون إلى استخدام نظام الحوالة، خاصة بعد التعميم الذي أصدره بنك سورية المركزي عام 2017 بتحديد سقف المبالغ المحولة من المقيمين في الخارج بـ 500 دولار. ومن بينهم إبراهيم يوسف (اسم مستعار)، والذي وصل إلى ألمانيا قبل 5 سنوات ويحول ثلاثة أرباع ما يحصل عليه عبر هؤلاء السماسرة بينما يعيش بواسطة ما يتبقى.