كثرت في الفترة الأخيرة المبادرات التي تدعو جماعة الإخوان المسلمين للقيام بمراجعات فكرية، كان آخرها إعلان الشيخ عصام تليمة، أحد رموز الجماعة، نيته البدء في سلسلة دراسات تهدف إلى تقويم الجماعة، وهذا أمر جيد ومفيد، ولكن القاسم المُشترك بين كل هذه الدعوات هو افتقاد المنهجية والآلية التي سيتم العمل بها في إجراء النقد والتقويم؛ لذلك سأقدم هنا منهجية فاعلة أثبتت نجاحها في تجارب عديدة، كان من أبرزها تجربة حزب العدالة والتنمية التركي عندما قرر تقديم تجربة جديدة مختلفة عن رؤية وفلسفة الزعيم الراحل نجم الدين أربكان، وهذه المنهجية تستند إلى مربع معرفي محدد، وسأعرض في كل ضلع منه نموذجا تطبيقياً يحتاج للتصويب وفق التالي:
الضلع الأول: مراجعة الأفكار المؤسسة والجذور العميقة التي تقف خلف الأيديولوجيا التي انطلق منها المؤسس حسن البنا، ومقاربتها مع تقدم الزمن وتطور حركة الأفكار؛ فالبنا على سعة علمه وذكائه تحرك وسط البيئة الثقافية والاجتماعية التي عاش فيها وانتمى إليها، ففي عصره سادت المدارس السياسية التي تؤصل وتُنظر للأفكار الشمولية والتنظيمات الحديدية التي تسعى إلى الهيمنة على المجتمعات المحلية، ثم التحرك للسيطرة على والهيمنة على الدول المجاورة، مثلما فعلت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية؛ لذلك نلمس تأثر البنا بتجربة الزعيم هتلر عند مطالعة كتابه (الرسائل)، خاصة عندما يقول: إن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة، وإذا فذلك من شأننا لا من شأن الغرب ولمدنية الإسلام لا لمدنية المادة. فقد صاغ البنا رحمه الله في تلك الفترة مقاربة إسلامية تهدف إلى السيطرة على المجتمع والتمكن منه، وهذه الفلسفة ربما كانت مناسبة في وقتها وزمنها، أما الآن فلا أعتقد أنها نافعة وفاعلة في ظل المتغيرات العالمية، والسنن الكونية، ومقاصد الإسلام الكبرى التي تهدف إلى تحرير البشرية لا الهيمنة عليها.
الضلع الثاني: مراجعة الأيديولوجيا الحاكمة للحركة والمؤسسة لكل سياساتها التربوية والسياسية؛ فمدرسة البنا الأيديولوجية قائمة على أن سبب تخلف المجتمعات المسلمة هو بعدها عن الإسلام، وأن السبيل للنهوض بها هو العودة للإسلام من خلال بناء الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة، ثم الخلافة والتبشير بأستاذية العالم، وفي سبيل ذلك صاغ مجموعة من الشعارات والمسلّمات التي أصبحت من ركائز الإسلام عند العديد من المسلمين، وهذه المصطلحات والشعارات أنتجها البنا وفق فهمه للإسلام وتعاليمه منذ قرابة قرن من الزمان، وأعتقد أنها بحاجة إلى التدقيق والتصويب في ضوء التجارب السياسية الإسلامية للمجتمعات المسلمة، خاصة في السودان، وإيران، وأفغاستان، والسعودية، وباكستان من جانب، ويُضاف لذلك أيضاً رأي العديد من علماء الاجتماع الذين يرون أن سر تخلف المسلمين يرجع إلى الاستبداد والفقر والفرقة وليس لبعدهم عن الإسلام.
الضلع الثالث: مراجعة السياسات الحاكمة
بعد ثورة 25 يناير 2011 حصل انكشاف واضح متعلق بعدم وجود سياسات شفافة داخل الحركة تضبط إيقاعها داخلياً، وتجعلها أكثر قبولاً مجتمعياً؛ فعدم التمييز بين السياسات الخاصة بالأنشطة الدعوية والسياسية داخل الإخوان شغب على سمعة وأداء الجماعة، فالأنشطة الدعوية والخيرية تنجح وتُثمر بقدر عدم انحيازها لرؤية فصيل سياسي معين، ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع من دون تمييز أو إقصاء، فهي أنشطة قائمة على فلسفة "قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا"، وأما المنافسة السياسية والصراع السياسي فهما يرتكزان على السجال والصراع؛ وبالتالي عدم تمييز الإخوان بين الدعوي والسياسي أربك الجماعة داخلياً وأزعج القوى السياسية خارجياً. ومن معالم عدم دقة السياسات الداخلية للجماعة الاضطراب في تصعيد الكوادر القيادية؛ فالجسد العام للجماعة شاب ولكن الكتلة القيادية للجماعة يتحكم فيها الشيوخ، وهذا حرم الحركة من الاستفادة من حيوية ومرونة ومغامرة جيل الشباب في فترة مفصلية في عمر الجماعة والوطن.
الضلع الرابع: تصويب الوسائل المتبعة
أهم وسائل الإخوان المُتبعة تاريخياً لتحقيق أهدافهم هي بناء تنظيم قوي عالمي وسري ذي قيادة هرمية، وهذه الوسيلة بعد قرن من الاستخدام أعتقد أنها تحتاج إلى دراسة وتأمل وفحص، فوجود تنظيم عقائدي قوي داخل الدول الوطنية ذات النشأة العسكرية أمر مستفز للجهاز الأمني يجعل احتمالات الصدام والاشتباك قوية جداً؛ فالتجربة المصرية في عهد عبد الناصر، والسادات، وعبد الفتاح السيسي شاهدة على ذلك، وبالتالي ينبغي للحركة أن تراجع كل الوسائل المتبعة لديها بما يضمن لها تجنب الأخطاء والمحن التي وقعت فيها ويحقق لها أهدافها بأقل الخسائر والتضحيات الممكنة؛ فالإصرار على تقديس الوسائل واعتبارها من الثوابت الإيمانية أمر يتنافى مع مستجدات العصر ووقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا.
بناء على ما سبق ينبغي على الراغبين في تصويب مسار الإخوان المسلمين بشكل استراتيجي ألا يكتفوا بمراجعة الوسائل والسياسات فقط من دون المرور على محطة نقد الأفكار المؤسسة للإخوان، والأيديولوجيا المتبعة للجماعة؛ فالتجديد في الوسائل من دون نقد الأفكار المؤسسة والأيديولوجيا الحاكمة لن يقود إلى تحول استراتيجي حقيقي تستفيد منه الحركة والمجتمع والأمة.
-------
اقرأ أيضاً:
في البدء كان هيكل ثم استمرت دولة يوليو