استمع إلى الملخص
- يعبر عن قلقه من الوحدة العربية، محذراً من أن السلام مع إسرائيل قد يكون خدعة، مشيراً إلى استخدام العرب لشخصية صلاح الدين كرمز للمقاومة.
- يؤكد على أهمية الهجرة اليهودية والدعم الغربي لمنع انهيار إسرائيل، مشيراً إلى التشابه في الاستراتيجيات العسكرية والسياسية بين الاحتلالين.
المرء مخبوء تحت لسانه، أو بين سطور ما يدونه من أفكاره، وهكذا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأكثر بقاءً (12 عاما متواصلة) وتأثيراً في منصبه بعد دافيد بن غوريون، أول من قاد دولة الاحتلال، إذ ثمة مقارنة لافتة بين الاحتلالين الصهيوني والصليبي، وردت في كتابه "مكان تحت الشمس"، الصادر بالعبرية عام 1993، وترجمته "دار الجليل" الأردنية بعدها بثلاثة أعوام.
عربياً تسمى تلك الفترة حروب الفرنجة، انطلاقاً من هوية المحتل القبلية أو الوطنية، بينما المصطلح الغربي قام على البعد الديني واختار تسمية الحروب الصليبية التي ذكرها نتنياهو ثماني مرات في الكتاب، لتصبح واحدة من النقاط الرئيسية المعبرة عن فكرة مركزية مستقرة في العقل الصهيوني، والذي يعبر عنه بوضوح نتنياهو وتياره المتنامي في كيان الاحتلال، خاصة أن الفكرة لها ما يبررها من حيث تشابه البدايات، والخوف من تكرار مآلات النهايات.
دون مواربة يقول نتنياهو إن "الفلسطينيين عليهم التخلص من الافكار التي سيطرت عليهم لسبعين عاماً، وهي فكرة الغزو الصليبي الصهيوني الجديد لمنطقة البحر المتوسط، وألا يصفوا الشعب اليهودي بالصليبيين الجدد، فنحن شعب قديم امتدت جذوره في هذه الأرض بعمق، نشعر أننا مرتبطون بها بقوة كشعور أي عربي تجاه قريته وبيته"، ودون الدخول في وهن أَفائِكه المشبعة دحضاً على يد مؤرخين من بني قومه مثل شلومو زند وإيلان بابيه، يستعيد قائد الاحتلال تاريخ الحروب الصليبية ليجعل منها سبباً مركزياً للعداء بين العرب والغرب الذي يعتبر دولته امتدادا له، قائلاً إن "العرب تلقوا إهانة في عام 1099م عندما سقطت القدس في أيدي الصليبيين الذين كانوا أقل منهم عدداً لكنهم أكثر منهم تنظيماً"، وهنا وكأنه يستبطن ما جرى مستقبلاً في عام 1967، إذ تكرر الأمر على يد الصهاينة الأقل عدداً والأكثر تنظيماً، وبالطبع ساد شعور المهانة كل عربي إلى أن اندلعت حرب أكتوبر 1973، والتي كان لها ما بعدها مثل معركة حطين وكلتاهما أعادتا إلى العرب الثقة بقدراتهم وإمكانية هزيمة عدوهم بعد اعتقاد أنه لا راد لقضائه ولا غالب لأمره.
الربط ما بين احتلالي الصهاينة والصليبيين، نجد أنه تكرر في سياق حديث نتنياهو عن أن العداء بين العرب والغرب "يعود إلى أن الاحتلال الغربي للعالم العربي والإسلامي حتى منتصف القرن العشرين، كان ذورة الإذلال والنقيض تماماً لمكانة العرب في العالم، ها هي أوروبا التي كانت بأيديهم قبل فترة تسيطر الآن بقوة واستعلاء على كل العالم العربي، ذرية شارل مارتل تحكم دمشق والجزائر، بينما يرفع أحفاد ريتشارد قلب الأسد راية الصليب فوق أبراج القاهرة وبغداد، ومن بعدها كان جمال عبد الناصر الروح الحية التي أسست منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة عام 1964، وترك لها نظرته للوحدة العربية المتوهجة، ولا تزال هذه التركة قائمة نلمسها حتى اليوم في السموم المعادية للغرب التي تفرزها فصائل منظمة التحرير المختلفة والتي تتبنى كل منها أيديولوجيا خاصة بها ترفض وجود إسرائيل التي تمثل قاعدة للغرب الأمبريالي، ... لقد اعتبر الزعماء العرب المعادون للغرب دائماً وأبداً الصهيونية معبراً وممثلاً للثقافة الغربية وغرسة غربية تعمل على تقسيم العالم العربي، وما الصهاينة سوى صليبيين جدد".
يبدو استشعار القلق من فكرة الوحدة العربية بوضوح في الحديث السابق، وما يدعم ذلك ما قاله نتنياهو إن "العالم العربي به نغمة سائدة تقول إن توحيده تحت قيادة صلاح الدين الجديد وقذف دولة الصليبيين الجديدة إلى البحر مسألة وقت، منتقداً تكرار اسم صلاح الدين على ألسنة صدام حسين والأسد وعرفات والذي ينسب له القول إن منظمة التحرير لا تطرح سلام الضعفاء بل سلام صلاح الدين"، محذراً من أن: "ما لم يقله عرفات هنا وبوضوح ويعرفه الشعب العربي جيداً، هو أن سلام صلاح الدين، أي الاتفاق الذي وقعه مع الصليبيين لم يكن سوى خدعة، إذ بعد الاتفاق استأنف المسلمون هجماتهم على الصليبيين حتى طردوهم نهائياً من الأراضي المقدسة"، وهنا بوضح يكشف الرجل عن وعيه الكامل بالارتباط الواقعي بين نمط الاحتلالين الإحلاليين، فقد نفى أنهم كالصليبيين، ثم يعود ليؤكد الأمر عندما يتحدث عن أن السلام بين العرب وإسرائيل خدعة ستؤدي لطردهم كالصليبيين، ويضيف أنه من المحتمل أن هذا الأمر هو السبب الذي جعل الرئيس حافظ الأسد يعلق في مكتبه صورة كبيرة لصلاح الدين (بالتأكيد أمور مثل هذه لابد أن يؤكدها مصدر مستقل فقد تكون من تخرصاته)، بطل الانتصارات الذي دحر الصليبيين.
و"حتى لا تنهار دولة اليهود كدولة الصليبيين التي ظلت تصغر وتتقزم حتى تلاشت نهائياً"، يقول نتنياهو إن هجرة اليهود من دول الاتحاد السوفييتي السابق وغيرها من الدول الغربية على شكل موجات جماعية ومنع حدوث هجرة معاكسة من إسرائيل على نطاق واسع، أمران مهمان يضعان نهاية لما يصفه بالحلم العربي في زوال إسرائيل، وهذه نقطة لافتة في تشابه مسار ومنبع الاحتلالين اللذين هاجما المنطقة انطلاقاً من أوروبا، ليكونا دولاً من مستوطنين يتسمون بوحشية اللصوص وهمجيتهم، ومنطقهم الذي يقول إما نحن أم هم على هذه الأرض، كما سبق أن وصف الغزو الأول، الأمير والمؤرخ أسامة بن منقذ (488هـ/1095م - 584هـ/1188م) في كتابه "الاعتبار" لدى حديثه عن الصليبيين وأخلاقهم (احتلت إسرائيل مدرسة عربية باسمه في الخليل ومنحتها للمستوطنين في 1980).
اليوم نعيش تلك الأحداث التاريخية التي سبق أن قرأنا عنها، وتتجسد أمامنا في غزة ولبنان، فالمحتل لا بد أن يرهب صاحب الأرض ويرعبه، لأنه أقل عدداً ويأمل أن يطيل بقاءه في بيئة طاردة، وكما كان الصليبيون غير مرحب به، تعاني إسرائيل المعضلة ذاتها، لذلك تكرر المذابح التي سبق أن ارتكبها من سبقوها وهي تحسب أنها بذلك تحسن صنعاً وتطيل عمراً لكيانها المحاصر خارجياً والمأزوم داخلياً.
مبدأ الأمر أن قام الاحتلال الصليبي الأول على وعد ديني باستعادة الأرض المقدسة من المسلمين وتحرير قبر المسيح، لكن أوروبا التي علمنت السياسة وأبعدت الكنيسة عنها بعد صلح "وستفاليا" في عام 1648، سلمت الشعلة إلى الحركة الصهيونية التي جذبت المستوطنين بحجة العودة كذلك إلى أرضهم المقدسة، واستعادة الهيكل الذي أعد أساساً ليكون مسكناً للإله بحسب ما ورد في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وهكذا خلقت أوروبا نسخة جديدة من توسعها الجيوستراتيجي وهيمنتها على محيطها القريب لتأمين جنوبها المطل على البحر المتوسط، واليوم ما لبث التاريخ إلا أن كرر أحداثه لأن العرب لم يصغوا إلى درسه القديم، فكما أتى المدد من أوروبا للصليبيين بالمال والرجال والسلاح، تحارب الصهيونية معتمدة على مقدرات الغربيين والقارة التي اتسع مفهومها، وامتد بحكم التطور إلى أميركا، ومع ذلك ما تزال دول القارة العجوز التي سبق أن انطلقت منها الحملات الصليبية تشارك بفعالية في المجهود الحربي مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وبالتأكيد مما نراه لا يمكن لإسرائيل الاستمرار في المعركة دون مددهم.
أضف إلى ذلك أن احتلال الصليبيين نجح في البقاء 200 عام بسبب الفرقة والتشرذم وتطبيع الحكام، بل وسعي البعض، وأهمهم الفاطميون سادة القاهرة وقتها وحكام إمارات بلاد الشام، إلى حلف معهم، ولا تزال الحالة ذاتها مسيطرة على العرب عامة، بل وحتى الفلسطينيين أنفسهم والذين غشيهم الانقسام رغم أنهم يدفعون ضربية الدم كل يوم، ومن ضمن عوامل التشابه والالتقاء بين الاحتلالين، سعي الصليبيين لإطالة أمد بقائهم عبر استمرار المحيط العربي الإسلامي مشتتاً، وبالطبع فإن تفتيت المنطقة على أسس دينية (سنة وشيعة) وعرقية (عرب وكرد وترك) يحقق لهم ما يصبون إليه.
عسكرياً حاولوا بناء تحصينات قوية تقوم على محطات إنذار مبكر لمراقبة المسلمين، واحتلال مناطق تمنع تواصل العالم الإسلامي مثل الرها بين العراق وسورية، والكرك والشبوك لمنع التواصل بين مصر وبلاد الشام، وهو ما يقلق إسرائيل، وبدا ذلك في رد فعلها على الوحدة المصرية السورية زمن الرئيس عبد الناصر، كما اعتمد الصليبيون على أسلوب الحرب السريع الخاطفة عبر سلاح الفرسان ممن يختارون مواسم معينة للهجوم مثل مواسم الحصاد، كما هو سلاح الجو الإسرائيلي اليوم، وكذلك إبقاء روح الصليبية قوية في الغرب، وهو ما تقوم به إسرائيل اليوم، حتى إن قادة أميركا يفتخرون بصهيونيتهم مثل بايدن الذي قال في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أي قبل طوفان الأقصى والذي أصبح مثار حالة من الجدل وكأن احتلال فلسطين وقع يومها، "لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها".
ويمكن فهم سر استهداف العديد من الحملات الصليبية لمصر في العمل على تحييدها حتى تستقر إماراتهم، كما يقول الدكتور الدكتور نعمان محمود جبران في كتابه الماتع "دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك"، وهو ما تحقق للصهاينة بعدما خرجت مصر من ساحة الصراع منذ 1979 وإلى اليوم وهذه لحظة لا يزال العالم العربي يدفع ثمنها غالياً، ومن وقتها تتوسع إسرائيل وتتمدد.
رغم الألم الهائل الذي نعيشه، يبقى كل احتلال إلى زوال وهذه ليست شعارات، فكل ما نراه يؤكد أن الجسد العربي ما يزال رافضاً لزراعة عضو غريب داخله، والتاريخ يؤكد أن الصليبيين حتى وإن وقع معهم تطبيع وتحالف رسمي، لم يستمروا في المنطقة واستمرت معاركنا معهم، تارة لهم وتارة عليهم، إلى أن تم استصال شأفتهم كما غيرهم من المستعمرين وإن منكم إلا واردها.