سيطرت مشاعر اليأس على العشريني التونسي زياد خالد، بعد حصوله على رقم 6 آلاف في قائمة مرضى الكلى، ممن ينتظرون متبرع ينقذهم من آلام عمليات الغسيل الكلوي (تصفية وتنقية الدم)، غير أن تردي حالة زياد الصحية وانقطاعه عن الدراسة دفعا ابن عمه الذي يكبره بعامين للتبرع بكليته له.
بعد خروجه من "قائمة اليأس" كما يسميها، يعتقد زياد أنه حظي بفرصة ثمينة للحياة، يبحث عنها تسعة آلاف وخمسائة مريض تونسي، ينتظرون إجراء عمليات زرع الكلى، بعد إصابتهم بفشل كلوي صار يهدد حياتهم، مثل ما جرى لهيثم ذي الثمانية عشر ربيعاً، والذي عانى من قصور كلوي وكبدي، أدى إلى تدهور في حالته، ما جعله في حاجة إلى عمليتي زراعة كلى وكبد في الوقت ذاته، ويقول والده عبد النبي بن محمود، لـ"العربي الجديد": "حالة ابني في تدهور مستمر، ويذبل يوماً وراء يوم، حتى صار مقعداً في كرسي متحرك، لم نجد متبرعاً".
عقب شهر من تصريحات الأب لمعدة التحقيق، توفى هيثم، بسبب تدهور حالته الصحية، بعد أن ظل أربعة أعوام في قائمة الانتظار، كما أكد والده لـ"العربي الجديد".
1350 مريضاً في أولوية القائمة
تكشف المديرة العامة للمركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء، رفيقة باردي، عن وجود 1350 مريضاً في صدارة قائمة من هم بحاجة إلى إجراء عمليات زرع كلى، من بين التسعة آلاف وخمسائة مريض، وأضافت باردي، المختصة في علم المناعة بكلية طب تونس، أن الحصول على الكلى البديلة يتم إما بواسطة متبرع حي أو عن طريق الموت الدماغي، مشيرة إلى أن أغلب الحالات تنتظر متبرعاً تعرض للموت الدماغي، ما أدى إلى طول فترة الانتظار حتى وصلت إلى 10 و15 عاماً، قد يموت أثناءها المريض ولا يجد متبرعاً.
وتبلغ نسبة رفض عائلات المتوفين دماغياً التبرع بأعضائهم 86%، بحسب إحصاء صادر عن المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء، وعلى الرغم من عمل المركز على تشجيع التبرع بالأعضاء، إذ يوجد في كل مستشفى سجل خاص يمكن من خلاله لأي تونسي وضع اسمه بصفة إرادية كمتبرع، إلا أن هناك عزوفاً واضحاً عن عمليات التسجيل، كما تؤكد رفيقة باردي، والتي أوضحت أنه على الرغم من وضع كلمة متبرع ضمن بطاقة الهوية، لتسهيل عملية الحصول على الأعضاء في حالة وفاة المتبرع دماغياً، تفادياً للاصطدام مع عائلات المتوفين دماغياً، والتي ترفض التبرع بأعضائهم، إلا أن رفض العائلات وصل إلى حد إخفاء بطاقات هوياتهم كما تؤكد باردي، موضحة أن عدداً ممن وضعوا عبارة متبرع على بطاقات تعريفهم الوطنية ثابت عند حد عشرة آلاف مسجل منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
ويؤكد الدكتور حافظ المستيري، المدير العام السابق للمركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء، أن عدد حالات الموت الدماغي في تونس يصل إلى 600 حالة من بين 66 ألف حالة وفاة في العام، بينما لا يتجاوز عدد حالات التبرع في العام من بين المتوفين دماغياً 24 حالة في تونس، كما أكد المستيري في تصريحات صحافية.
وبحسب إحصاءات المركز الوطني للتبرع بالأعضاء، فقد تم إجراء 114 عملية زرع كلى، في العام الماضي، لكن يظل الرقم دون المأمول، كما يقول مدير المركز، إذ إن أعداد المرضى تقدر بالآلاف ويموت عدد كبير منهم قبل أن يحين دورهم.
ووفقاً لدراسات وزارة الصحة العامة فإن 2500 مريض يقومون بالغسيل الكلوي بشكل دوري. وتصل كلفة هذه العملية إلى 15 ألف دينار (8 آلاف دولار) للمريض الواحد، وتعدّ أمراض الكلى الأكثر انتشاراً في تونس. وفي هذا السياق، أكدت المتخصصة في علاج أمراض الكلى، فاطمة بن موسى، أن "أمراض الكلى تأتي في المرتبة الثانية من بين جملة أمراض أخرى وخطيرة ومزمنة، والتي تتطلب علاجاً دقيقاً وطويلاً".
وتسجل الجمعية التونسية لأمراض الكلى 1400 حالة جديدة كل عام، ومن مجموع تسعة آلاف وخمسائة مريض بالكلى في تونس فإن 90٪ من بينهم يعانون من القصور الكلوي المزمن، ويحتاجون إلى عمليات زرع، في حين أن 30٪ يحيون عن طريق عمليات الغسيل الكلوي، ويزيد عدد من هم بحاجة للغسيل الكلوي بمقدار 4 بالمائة سنوياً، في حين يتمكن 7 بالمائة فقط من إيجاد متبرع والعيش بكلية "مزروعة"، وفقاً لإحصاءات الجمعية.
معوقات نقل وزراعة الأعضاء
من واقع خبرة الدكتور المستيري في المركز الوطني للنهوض بزراعة الأعضاء، فإن عدم الوعي بمفهوم الموت الدماغي، يؤدي إلى صعوبة إقناع عائلة المتوفى الواقعة تحت تأثير الصدمة بالتبرع لآخر قد تكون حياته على المحك، في السياق ذاته يوضح الدكتور عماد ملاخ، لـ"العربي الجديد" أن الشائعات الإعلامية أدت إلى عزوف التونسيين عن التبرع بالأعضاء، إذ روج بعضهم أحاديث غير حقيقية حول المتاجرة بالأعضاء، فيما تمارس بعض الأعمال الفنية ترهيباً على الجمهور، عند التطرق لملف زرع الأعضاء، ما ساهم في نشر الشائعات وزيادة مخاوف التونسيين من التبرع بالأعضاء.
ويعمل الملاخ في المركز الوطني للنهوض بزراعة الأعضاء، ويتولى مهمة إقناع العائلات بالتبرع والتنسيق لإجراء العمليات للمرضى، وهو ما جعله يحتك بالعديد من العائلات التي ترفض تبرع أبنائها عقب وفاتهم، كما يقول، على الرغم من أنهم يؤكدون لهم أن العزوف عن التبرع يعني عدم العلاج، ويعني حرمان مريض من حقه في الحياة، وأضاف لـ"العربي الجديد": "متبرع واحد من الموتى دماغياً قادر على إنقاذ خمسة مرضى آخرين".
ويعني الموت الدماغي وفقاً للملاخ، أن يتوقف الدماغ عن العمل، وفي هذه الحال لا يوجد مجال للعودة إلى الحياة، وتابع: "يتم ضخ جرعات من الأدوية لجعل القلب يخفق اصطناعياً، حتى تتم عملية التبرع بنجاح".
ويؤكدّ ملّاخ أنّ استئصال الأعضاء يتم عن طريق جراحين في المستشفيات العمومية، وبالتالي فإنهم يسهرون على عملية رقابة عملية التبرع، مشيراً إلى ضرورة وجود أطباء محايدين لتحديد الموت الدماغي.
ويواجه الأطباء في تونس إشكاليات عدة مع عائلات المتوفين دماغياً، ويصل الأمر أحياناً إلى تهديد وتعنيف الأطباء، كما يؤكد رئيس قسم التعديل والتنسيق بالمركز الوطني للنهوض بزراعة الأعضاء محمد المعتصم بالله حميد، المختص في متابعة حالات الموتى دماغياً والحديث مع عائلاتهم، وبحسب الطبيب فإنهم يتعرضون للتعنيف المادي واللفظي والضرب عند السعي إلى إقناع العائلات بالتبرع.
ويؤكد الطبيب حميد أنه على الرغم من كل الضغوطات التي يتعرضون إليها من عائلات الموتى دماغياً وتحديداً أمهاتهم اللاتي يرفضن التبرع بأي عضو، إلا أن تمسكهم بالأمل يدفعهم إلى محاولة إقناعهم، بالموافقة، إذ إن الأمر يحتاج إلى سرعة الحصول على الأعضاء خلال بضع سويعات، يتم خلالها العمل على إقناع عائلة المتوفى بضرورة التبرع وفي الوقت ذاته تحضير المريض ليزرع له العضو الجديد.
شروط نقل وزراعة الأعضاء
وفقاً لأطباء ومختصين بالمركز الوطني للنهوض بزراعة الأعضاء، فإن المدة التي تتم خلالها عملية استئصال الكلى من أجل زراعتها تصل إلى 18 ساعة، وما بين ست إلى ثماني ساعات للكبد، وما بين أربع إلى ست ساعات للرئة والقلب، وبعد ذلك الوقت يصبح العضو غير صالح للزراعة، لأن بقاء عملية تدفق الدماء فيه تعتبر شرطاً أساسياً لإعادة زرعه.
وتمنع وزارة الصحة التونسية عمليات زراعة الأعضاء في المصحات الخاصة، لتجنب المتاجرة بها، وتنص الشروط القانونية على أن تتم عمليات نقل الأعضاء، سواء كانت من متبرع حي أو متوفى دماغياً، في كل من مشفى الرابطة الجامعي ومشفى شارل نيكول والمستشفى العسكري وكذلك مشفى الحبيب بورقيبة في صفاقس، ومشفى فرحات حشاد الجامعي في سوسة، ومشفى فطومة بورقيبة بالمنستير، وأن تكون عمليات التبرع والزرع مجانية ويمنع نقل أعضاء الإنجاب الناقلة للصفات الوراثية، سواء من الحي أو المتبرع المتوفى، وتتم عمليات زرع الأعضاء وفق معايير نوع الدم ونوع الأنسجة بالنسبة للكلى والأقدمية على قائمة الانتظار التي يضعها المركز إلكترونياً، ويعمل المركز على التأكد من سلامة العضو المتبرع به ومن عدم وجود ممانعة لنقل الأعضاء من طرف المتوفى دماغياً أثناء حياته، ويكون ذلك بالرجوع إلى دفتر الاعتراض الموجود بالمستشفى وإلى العائلة وفي حالة رفضها يتم احترام رغبتها.
محاولات للتوعية بأهمية زرع الأعضاء
تسعى جمعية أمل لمرضى الكلى بمدنين جنوب تونس، إلى مساعـدة مرضى الفشل الكلوي، والذين يتزايد عددهم، خاصة في الجنوب التونسي، نظراً إلى وجود الأرضية المناسبة لتفشي المرض ونقص الوعي والمراقبة الصحية وتلوث الماء الصالح للشرب، كما تقول أسماء ثابت، مسؤولة التنسيق والإعلام في الجمعية لـ"العربي الجديد".
ولم تخف المتحدثة أن مرضى الفشل الكلوي في تونس يعانون من مشاكل وصعوبات عدة تعرقل علاجهم، أبرزها تقليص ساعات تصفية الدم إلى أقل من أربع ساعات للحصة الواحدة، بسبب العدد المتزايد للمرضى، والذي يفوق أحياناً طاقة استيعاب المراكز، ونقص مراكز الغسيل الكلوي الخاصة والعمومية، خاصة في الجنوب والشمال الغربي، ما يضطر المرضى إلى التنقل لمسافات بعيدة للقيام بعملية غسيل الكلى ثلاث مرات في الأسبوع.
ولفتت أسماء ثابت إلى أن طول فترة التحاليل والفحوصات الطبية التي قد تتجاوز سنتين في بعض الأحيان، تظل من بين أهم الأسباب التي تجعل بعض المتبرعين يتراجعون عن رغبتهم في التبرع.
تأييد ديني
يؤكد الكاتب العام لنقابة الأئمة فاضل عاشور، أن المشرّع الديني أجاز التبرع بالأعضاء من دون اللجوء إلى بيعها أو المتاجرة بها وفق ضوابط وشروط.
وأضاف عاشور لـ"العربي الجديد"، أن الغاية هي إحياء النفس وإنقاذ المريض الذي يعاني من القصور الكلوي أو الكبدي، مبيناً أنّ التبرع يعتبر أفضل هدية وصدقة يتركها المتبرع لصالح شخص آخر. ولفت إلى أن زراعة أعضاء مثل القلب والكلية والنخاع الشوكي (غير ناقلة للجينات) لا جدال في أنه حلال، في حين أن الشرع والمشرع حرما نقل أعضاء الإنجاب الناقلة للصفات الوراثية، سواء من الحي أو المتبرع المتوفى، خوفاً من اختلاط النسب.