حجب المواقع الإلكترونية بكافة إشكالها المحلّية والعربية والدولية، إحدى الخطوات التي سعت إليها المليشيا، متجاوزة كل القوانين التي تكفل للموطنين حقوقهم في الحصول على المعلومات وخدمة الإنترنت، مستخدمة قوّة السلاح في فرض وجودها.
منظّمات عربية ودولية انتقدت هذا الإجراء القمعي في اليمن، ووجّهت لمن أقدموا عليه خطابًا لاذعًا، حيث رأت تلك المنظمات أنّ "سياسة الحجب المتّبعة تتعارض مع مبادئ تحالف الإنترنت العربي، وخصوصًا المبدأين الأول والثالث، واللذين ينصّان على حماية غير قابلة للتفاوض والتزام جميع أصحاب المصلحة بمبادئ حقوق الإنسان، حيث يستطيع الناس التمتّع بالحقوق والحماية، سواء في حياتهم العادية أو الافتراضية على الإنترنت".
وأكدت هذه المنظّمات في بيانات لها، أنّ "حريّة ممارسة الحقوق عبر الإنترنت غير قابلة للمساومة تحت أي ظرف من الظروف"، مشدّدة على "ضمان إمكانية الوصول إلى مصادر المعلومات عبر الإنترنت، وتعزيز تبادل المعلومات بين الأفراد والمجتمعات".
اقتحام وزارة الاتصالات
كانت وزارة الاتصالات واحدة من مؤسّسات الدولة التي قامت جماعة الحوثي وصالح بالاستيلاء عليها بقوّة السلاح ونهب مواردها، ومن ثم سعت تدريجيًا نحو فرض سياستها القمعية، وعدم السماح لأي انتقاد يوجه لها بالمرور عبر الوسائل الإعلامية. ومن هنا بدأت قصّة الملاحقات الأمنية للحرّيات وللصحافيين ولقطاع واسع من السياسيين وأبناء المجتمع المدني.
قامت وزارة الاتصالات، المزوّد الوحيد لخدمة الإنترنت، بحجب مئات المواقع عن الهواتف الذكية لجميع شبكات الاتصالات الخاصّة التي تعمل بموجب القانون اليمني، وعند دخول أي موقع سواء من خلال الكمبيوتر أو الهاتف المحمول، يظهر تنبيه بأن مزوّد الخدمة أغلق هذه المواقع لمحتواها "غير اللائق"، وكانت في السابق تبثُّ إشارة "خطأ 404" للإيحاء بأن هناك عطلًا فنيًا، أو سوء خدمة في السيرفر الذي يبثّ منه الموقع.
قبلها، عمدت جماعة الحوثيين إلى تضييق الخناق على الصحف، وأغلقت تقريبًا كل الصحف المعارضة لها، وانتبهت بعد ذلك إلى المواقع الإخبارية اليمنية فأغلقتها جميعًا، ما عدا الصحف التابعة لها والمؤيّدة لسياستها. وسيطر الحوثيون على صحيفة "الثورة" الرسمية، التي لا زالت تصدر حتى اليوم معبّرة عن توجهاتهم، بالإضافة إلى صحيفة "صدى المسيرة" والتي أصبحت بعدها تصدر بشكل دوري "نصف أسبوعية"، وصحف أخرى خاصّة يصدرها الموالون لـ"الجماعة"، إلى جانب سيطرتها على الإذاعة والتلفزيون الرسميين.
يقول الكاتب الصحافي نبيل الشرعبي، في حديث إلى "جيل": "سياسة حجب المواقع الإلكترونية في اليمن، وبالذات منذ مطلع العام 2015، حيث بلغت ذروتها، تعدّ انعكاسا لفشل سياسة القائمين بالحجب في إدارة العملية المطلوبة للبلد، والخوف من كشف الحقيقة أولًا بأوّل عبر هذه النوافذ الإعلامية، وهو ما أثبتته الأيام في ما بعد".
ويتابع الشرعبي أن لجوء تحالف انقلاب صالح والحوثيين، إلى اتّباع الحجب الممنهج لنوافذ الإعلام الإلكتروني، أثّر سلبًا على عمله الصحافي، إذ لم يعد بمقدوره متابعة ما يجري على امتداد جغرافيا اليمن، وخاصّة بعد إغلاق كل الصحف المناوئة لسياسة هذا التحالف الانقلابي القمعي، وكذلك إرغام أصحاب المقاهي والاستراحات على تحديد باقة القنوات الفضائية في قنوات "اليمن اليوم" و"المسيرة" و"الميادين" وغيرها من القنوات السابحة في فلك التحالف الانقلابي، وتجريم كل من يضيف قنوات أخرى إلى باقة هذه القنوات، في ظل التوقّف الكلي للكهرباء، ما جعل متابعة التلفاز في البيت غير متاح أيضًا.
وسائل مواجهة الحجب
محاولات جماعات الحوثي وصالح، الرامية إلى إغلاق كل الوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية التي تفضح تجاوزاتهم، جعلت اليمنيين يلجأون إلى وسائل أخرى بديلة لكسر حالة الحصار المفروضة عليهم، والتحايل للوصول إلى المعلومة بتقنيات تكنولوجية بسيطة، أحبطت المحاولات القمعية في فرض التوجّهات السياسية للحوثيين على الشعب اليمني.
هنا، يقول الناشط السياسي، محمد ناصر: "الأمر له علاقة بتصفية الشهود من مسرح الجريمة، وهذا مسلك الجماعات والانقلابات في أرجاء كوكب الأرض، عندما تصادر إرادة الشعب، تسعى إلى وضع القيود على حرّية التعبير والإعلام، لأن الإعلام ينقل للشعب ما يجري على أرض الواقع، ويحثّ الشعب على عدم الصمت تجاه سلب الإرادة".
ويضيف ناصر لـ"جيل": "من وجهة نظري في ظلّ وجود مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلام الحديث، والفضائيات، أصبحت محاولة تكميم الأفواه محاولة بائسة لضرب تراكمات حرّية التعبير التي شهدتها اليمن بشكل أوسع منذ ثورة الشباب، ولدى اليمنيين ألف وسيلة ووسيلة لكسر الحجب ونسخ ما يدور في المواقع المحجوبة إلى الفيسبوك والواتس آب والانستغرام وغيرها من المواقع الأخرى".
يُذكر أنه بعد سيطرة الحوثيين الكاملة على صنعاء، تداولت وسائل الإعلام شائعات تفيد بتخطيط وزارة الاتصالات لحجب مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك، بيد أن الوزارة أنكرت ذلك، ودعت إلى تحرّي الدقّة. وفي مارس/ آذار 2015، بدا أن موفّري خدمة "يمن نت" يعملون على مراقبة المواقع، وخنق معدّل تدفق البيانات المتبادلة عبر موقع فيسبوك على وجه الخصوص، بحيث لا يبدو للمستخدم أن الموقع محجوب.
المليشيا تتراجع افتراضيًا
من جهته، يشير المهندس معاذ شيبان، مختصّ في التقنيات الحديثة، إلى أن الخاصية المستخدمة من قبل شركة "يمن نت"، المزوّد الوحيد للخدمة في اليمن، تسمى (white-list)، وهي عكس طريقة القائمة السوداء (Black-list) تمامًا؛ حيث تعتمد الطريقة على حجب كافّة المواقع من مصادرها عدا مواقع معينة ومحدودة فقط.
ومن وجهة نظر الصحافي علي الفقيه، فإن حجب المواقع هو محاولة من جماعة الحوثيين وصالح لحجب المعلومة والسيطرة على الفضاء الإعلامي داخل البلاد، فهم يعتقدون أن وصول المعلومة إلى القارئ سيعيق قدرتهم على السيطرة على البلد ويكشف الأكاذيب التي يروّجونها للشعب من طرف واحد كحقائق مطلقة، مضيفًا أنهم سيطروا على الإذاعات المحليّة، وأغلقوا الصحف الورقية وأغلقوا القنوات الفضائية، وقطعوا الكهرباء حتى لا يتمكّن الناس من متابعة ما يحدث، وبقيت المواقع التي يمكن للمواطن أن يصل إليها للحصول على المعلومة، فعمدوا إلى حجبها ليستكملوا السيطرة على قنوات تدفق المعلومات، على حدّ قوله.
يستطرد الفقيه، وهو مدير تحرير أحد المواقع الإخبارية اليمنية، في قوله خلال حديث إلى "جيل": "التكنولوجيا لا تساعدهم على سدّ المنافذ، فبالإضافة إلى قدرة كثير من المتصفّحين على تجاوز الحجب والوصول إلى المواقع عبر برامج كسر الحجب، فإن المواقع الإلكترونية تحاول الوصول إلى جمهورها من خلال نوافذها على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر والتيليغرام وغيرها، وهذه لا يزال من الصعب عليهم حجبها الآن. ونحن في المواقع الإخبارية خسرنا كثيرًا من جمهورنا في الداخل بسبب الحجب، لكننا فتحنا نوافذ على مواقع التواصل والتي تصل إلى أعداد كبيرة من المتصفّحين إضافة إلى إطلاقنا تطبيقات على الهواتف الذكية تكفل للمتصفحين متابعتنا من خلالها".
يؤكّد المتحدّث أنهم مصمّمون على مواصلة مهمتهم رغم التحديّات ورغم توقّف مصادر الدخل، خصوصًا الإعلانات التجارية التي كانت تشكّل المصدر الأكبر لتمويل المواقع، "فالتجار والشركات توقّفوا عن الإعلان في مواقعنا خوفًا من بطش جماعة الحوثيين التي تسيطر على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات".
تصاعد مستوى حجب المواقع الإلكترونية في اليمن منذ بداية الصراع بين الحوثيين وقوّات موالية للرئيس عبد ربه منصور هادي، حيث قامت سلطة الحوثيين في صنعاء، بحجب غالبية المواقع السياسية والإخبارية المحليّة والإقليمية بسبب تغطيتها للصراع. وعرفت هذه الفترة أكبر عملية حجب لمواقع الإنترنت.
يبدو أن هناك قدرًا مماثلًا من الإصرار على المواجهة وإيجاد البدائل بقدر محاولات الحجب التي تتعرض لها المواقع الإلكترونية في اليمن، وهناك حملات ومبادرات إلكترونية تتولى مهمة إيجاد وسائل بديلة، بما في ذلك إيجاد برامج قوية وذكية وتقوم بإرسالها إلى المستخدمين ما بين ومرحلة وأخرى.
وتشهد اليمن زيادة كبيرة في عدد مستخدمي تطبيق تلغرام، الذي أتاح فرصة نقل الأخبار عبر نظام القنوات، دون الحاجة إلى مشاركة رقم الهاتف الشخصي. وانتقلت العديد من المواقع المحجوبة إلى هذه التطبيقات ومثيلاتها للوصول إلى المستخدمين، وتتجه السلطات لحجب خدمتي الواتس آب والتليغرام والفيسبوك بشكل متقطع، إلا أنها تجد نفسها عاجزة أمام وفرة الوسائل والبرامج المتاحة والبديلة.