عرف المشهد الإذاعي تضخماً بعد الثورة التونسية (17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 - 14 يناير/ كانون الثاني 2011)، إذ وصل عدد الإذاعات التونسية إلى أكثر من 35 إذاعة، علماً أنها لم تتجاوز الـ 11 قبل الثورة، وباتت مسألة الجدوى الاقتصادية منها وصعوباتها المالية مثار جدل كبير، خاصة أمام تعدد حالات الطرد الجماعي للصحافيين من هذه الإذاعات، بحجة الأزمة الاقتصادية التي تمنع إداراتها من الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه العاملين فيها.
الأزمة الاقتصادية هذه يراها بعضهم نتيجة ضعف سوق الإعلانات التجارية، إذ حافظت الحقيبة المالية للإعلانات التجارية في تونس على مستواها، أي مائة مليون دينار تونسي (43 مليون دولار أميركي)، بينما ارتفع عدد وسائل الإعلام السمعية والبصرية، ما أثّر على نصيب كل مؤسسة من هذه الحقيبة المالية للإعلانات التجارية، ولكن حتى هذه الإعلانات التجارية تكاد تحتكر الجزء الأكبر منها إذاعة "موزاييك أف أم" الخاصة التي تحظى بأعلى نسب استماع، وصلت إلى 17 في المائة من إجمالي المستمعين، أي 1.7 مليون مستمع.
وتسيطر "موزاييك أف أم" على 60 في المائة من الإعلانات التجارية الموجّهة للإذاعات التونسية، ولا يبقى لأكثر من 34 إذاعة إلا 40 في المائة من حجم الإعلانات التجارية، وتستأثر إذاعة "جوهرة أف أم" الخاصة وإذاعة "شمس أف أم" المصادرة بالنصيب الأكبر مما تبقّى منها. هذه الحالة دفعت العديد من الإذاعات إلى التفكير جدياً في التوقف عن البث وتسريح العاملين فيها، وهم يعانون أصلاً من عدم سداد مستحقاتهم، لمدة تصل إلى أكثر من ستة أشهر، كما هو الحال في إذاعات مثل "الشعانبي أف أم" و"نجمة أف أم".
كما أن الإذاعات الرسمية، وعددها 11 إذاعة وتمويلها الأساسي مصدره ميزانية الدولة التونسية، تعاني من صعوبات مالية كبرى تجعل إنتاجها للبرامج محدوداً، لضعف ميزانية الإنتاج وتخصيص 90 في المائة منها لسداد أجور العاملين فيها، وقد أرجع بعضهم ذلك إلى ضعف مواردها من الإعلانات التجارية وفشلها في منافسة الإذاعات الخاصة، إذ لا تحظى أقدم إذاعة رسمية في تونس، وهي "الإذاعة الوطنية" (تأسست عام 1938)، بنسبة استماع تفوق 4.4 في المائة من إجمالي المستمعين، أي نحو 438 ألف مستمع، وهو رقم ضعيف مقارنة بإذاعة "موزاييك أف أم". كما أن إذاعة رسمية مثل "الإذاعة الثقافية" لا تحظى بنسبة استماع تفوق 0.5 في المائة من عدد المستمعين، أي نحو 55 ألف مستمع.
هذه الوضعية الصعبة التي تعيشها معظم الإذاعات التونسية أرجعها بعضهم إلى إجازات البث التي منحتها "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري" (الهايكا) لهذه الإذاعات، من دون دراسة ملفها الاقتصادي ومدى قدرتها على الصمود في سوق تنافسية تحتكرها بعض الإذاعات الخاصة.
لكن عضو "الهايكا"، هشام السنوسي، نفى لـ "العربي الجديد" هذه الاتهامات، وقال إنّ "الهيئة تدرس الملفات بشكل دقيق وتمنح الإجازات القانونية وفقاً لشروط مضبوطة، إسهاماً منها في خلق إعلام تعددي مستقل وذي جودة قادر على المنافسة". وأضاف السنوسي أن "الهايكا لا تتحمّل مسؤولية فشل بعض الإذاعات في فرض وجودها في الساحة الإعلامية التونسية على مستوى حصولها على إعلانات تجارية، لأن دور الهايكا متابعة المضامين المنتجة بعد بثّها لا قبله".
وفي سياق متصل، أكد السنوسي أن "الهايكا عند تأسيسها وجدت قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية تبث بصفة غير قانونية، وكانت أمام خيارين؛ إما إغلاق هذه المؤسسات أو تسوية وضعيتها القانونية وضمان تواصل عملها، وبالتالي ضمان استمرار الصحافيين في العمل، وقد فضّلنا الحلّ الثاني، خاصة أن سوق الشغل لمتخرجي كليات الإعلام في تونس محدود جداً".
أما عن الأزمة التي تعيشها هذه المؤسسات فلا تعود في تقدير السنوسي لعددها المرتفع بل لغياب تنظيم توزيع الإعلانات التجارية، إذ قال "طالبنا أكثر من مرة الحكومة التونسية بتنظيم الإعلانات التجارية من خلال بعث هيكل مختص في قيس نسب الاستماع والمشاهدة يقدّم أرقاماً حقيقية تعكس الواقع الحقيقي، بعيداً عمّا تقدمه بعض الشركات المختصة الآن، والذي يخضع لمراكز ضغط سياسي تريد نجاح هذه المؤسسة الإعلامية وإفشال أخرى لاختلافات سياسية"، وأضاف "لا توجد إرادة سياسية لبعث هيكل قيس نسب الاستماع والمشاهدة من قبل الحكومة التونسية مثلما حصل في المغرب، بل إن السلطة التنفيذية ليست لها رؤية واضحة تتعلّق بكيفية إصلاح الإعلام ".
عضو مجلس الهايكا أقرّ بوجود ضغوطات على المؤسسات الإعلامية، خاصة "التلفزيون الرسمي التونسي" الذي يريد بعض الأطراف في السلطة وبعض الأحزاب تحويله إلى جهاز حكومي تابع لها، بينما هو جهاز عمومي يعبر عن كل أطياف الشعب التونسي، بمختلف توجهاته الفكرية والسياسية وموقعه الجغرافي في البلاد.
وللتأكيد على ذلك، قال السنوسي إن "إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم المصادرة من قبل الحكومة التونسية اتخذ فيها رئيس الحكومة السابق، الحبيب الصيد، قراراً بإلحاقها بالإذاعة العمومية (الرسمية) التونسية، وهو نفس القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، لكن حزب حركة النهضة عطّل ذلك ورفض إلحاق إذاعة الزيتونة بالإذاعة الرسمية، وهنا يبرز التدخل الحزبي في الشأن الإعلامي".
وتابع أن "رئيس الجمهورية الحالي، الباجي قايد السبسي، يوظف الإعلام لفائدة شخصه، فهل من المعقول في إعلام تونس ما بعد الثورة يفتتح التلفزيون الرسمي نشرة أخباره الرئيسية بمقالة صادرة في صحيفة غربية تمجّد خصال رئيس الدولة، هذه الممارسات خلناها انتهت لكنها بدأت تعود للأسف بقوة من خلال وضع بعض المسؤولين عن جهاز دعاية النظام الذي أطاحت به الثورة في مراكز قيادية".
وعن اتهام "الهايكا" بالتدخّل في الشأن السياسي، قال السنوسي ساخراً "الهايكا لها وظيفة سياسية باعتبار أن الدستور التونسي منحها كثيراً من الأدوار؛ منها أنها قائمة على دعم الديمقراطية، والمسار الديمقراطي هو مسار سياسي بامتياز ولكن بعضهم يريد إفراغ الهايكا من وظيفتها التقريرية، مثلما لمح إلى ذلك رئيس الجمهورية في حوار مع إحدى الصحف التونسية عند حديثه عن الهيئات الدستورية".
وختم السنوسي بالقول إن "أزمة الإعلام التونسي بقدر ما هناك مسؤولية تتحملها المؤسسات الإعلامية، لكن الإرادة السياسية في الإصلاح تبقى هي المؤشر الأساسي لكل خطوة في خلق إعلام تونسي حرّ مستقل وتعددي".
تجدر الإشارة إلى أن "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري" (الهايكا) تلعب دوراً محورياً في المشهد السمعي البصري في تونس، منذ تأسيسها، إذ تمنح التراخيص القانونية للإذاعات والتلفزيونات الجديد، وتقوم بدور التعديل المابعدي لما تبثه هذه الإذاعات والتلفزيونات.
وتتدخل بفرض عقوبات مالية، وحتى إيقاف البرامج والتهديد بسحب التراخيص لكل من يقدم مادة إعلامية لا تراعي طبيعة المجتمع التونسي أو تمس السلم الأهلي، إلا أنها تتعرض أيضاً إلى جملة من الانتقادات حول دورها في إغراق المشهد السمعي البصري في تونس بإذاعات وتلفزيونات لا تمتلك القدرة على الاستمرار في العمل، ما يعرّض العاملين فيها إلى البطالة.
اقــرأ أيضاً
الأزمة الاقتصادية هذه يراها بعضهم نتيجة ضعف سوق الإعلانات التجارية، إذ حافظت الحقيبة المالية للإعلانات التجارية في تونس على مستواها، أي مائة مليون دينار تونسي (43 مليون دولار أميركي)، بينما ارتفع عدد وسائل الإعلام السمعية والبصرية، ما أثّر على نصيب كل مؤسسة من هذه الحقيبة المالية للإعلانات التجارية، ولكن حتى هذه الإعلانات التجارية تكاد تحتكر الجزء الأكبر منها إذاعة "موزاييك أف أم" الخاصة التي تحظى بأعلى نسب استماع، وصلت إلى 17 في المائة من إجمالي المستمعين، أي 1.7 مليون مستمع.
وتسيطر "موزاييك أف أم" على 60 في المائة من الإعلانات التجارية الموجّهة للإذاعات التونسية، ولا يبقى لأكثر من 34 إذاعة إلا 40 في المائة من حجم الإعلانات التجارية، وتستأثر إذاعة "جوهرة أف أم" الخاصة وإذاعة "شمس أف أم" المصادرة بالنصيب الأكبر مما تبقّى منها. هذه الحالة دفعت العديد من الإذاعات إلى التفكير جدياً في التوقف عن البث وتسريح العاملين فيها، وهم يعانون أصلاً من عدم سداد مستحقاتهم، لمدة تصل إلى أكثر من ستة أشهر، كما هو الحال في إذاعات مثل "الشعانبي أف أم" و"نجمة أف أم".
كما أن الإذاعات الرسمية، وعددها 11 إذاعة وتمويلها الأساسي مصدره ميزانية الدولة التونسية، تعاني من صعوبات مالية كبرى تجعل إنتاجها للبرامج محدوداً، لضعف ميزانية الإنتاج وتخصيص 90 في المائة منها لسداد أجور العاملين فيها، وقد أرجع بعضهم ذلك إلى ضعف مواردها من الإعلانات التجارية وفشلها في منافسة الإذاعات الخاصة، إذ لا تحظى أقدم إذاعة رسمية في تونس، وهي "الإذاعة الوطنية" (تأسست عام 1938)، بنسبة استماع تفوق 4.4 في المائة من إجمالي المستمعين، أي نحو 438 ألف مستمع، وهو رقم ضعيف مقارنة بإذاعة "موزاييك أف أم". كما أن إذاعة رسمية مثل "الإذاعة الثقافية" لا تحظى بنسبة استماع تفوق 0.5 في المائة من عدد المستمعين، أي نحو 55 ألف مستمع.
هذه الوضعية الصعبة التي تعيشها معظم الإذاعات التونسية أرجعها بعضهم إلى إجازات البث التي منحتها "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري" (الهايكا) لهذه الإذاعات، من دون دراسة ملفها الاقتصادي ومدى قدرتها على الصمود في سوق تنافسية تحتكرها بعض الإذاعات الخاصة.
لكن عضو "الهايكا"، هشام السنوسي، نفى لـ "العربي الجديد" هذه الاتهامات، وقال إنّ "الهيئة تدرس الملفات بشكل دقيق وتمنح الإجازات القانونية وفقاً لشروط مضبوطة، إسهاماً منها في خلق إعلام تعددي مستقل وذي جودة قادر على المنافسة". وأضاف السنوسي أن "الهايكا لا تتحمّل مسؤولية فشل بعض الإذاعات في فرض وجودها في الساحة الإعلامية التونسية على مستوى حصولها على إعلانات تجارية، لأن دور الهايكا متابعة المضامين المنتجة بعد بثّها لا قبله".
وفي سياق متصل، أكد السنوسي أن "الهايكا عند تأسيسها وجدت قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية تبث بصفة غير قانونية، وكانت أمام خيارين؛ إما إغلاق هذه المؤسسات أو تسوية وضعيتها القانونية وضمان تواصل عملها، وبالتالي ضمان استمرار الصحافيين في العمل، وقد فضّلنا الحلّ الثاني، خاصة أن سوق الشغل لمتخرجي كليات الإعلام في تونس محدود جداً".
أما عن الأزمة التي تعيشها هذه المؤسسات فلا تعود في تقدير السنوسي لعددها المرتفع بل لغياب تنظيم توزيع الإعلانات التجارية، إذ قال "طالبنا أكثر من مرة الحكومة التونسية بتنظيم الإعلانات التجارية من خلال بعث هيكل مختص في قيس نسب الاستماع والمشاهدة يقدّم أرقاماً حقيقية تعكس الواقع الحقيقي، بعيداً عمّا تقدمه بعض الشركات المختصة الآن، والذي يخضع لمراكز ضغط سياسي تريد نجاح هذه المؤسسة الإعلامية وإفشال أخرى لاختلافات سياسية"، وأضاف "لا توجد إرادة سياسية لبعث هيكل قيس نسب الاستماع والمشاهدة من قبل الحكومة التونسية مثلما حصل في المغرب، بل إن السلطة التنفيذية ليست لها رؤية واضحة تتعلّق بكيفية إصلاح الإعلام ".
عضو مجلس الهايكا أقرّ بوجود ضغوطات على المؤسسات الإعلامية، خاصة "التلفزيون الرسمي التونسي" الذي يريد بعض الأطراف في السلطة وبعض الأحزاب تحويله إلى جهاز حكومي تابع لها، بينما هو جهاز عمومي يعبر عن كل أطياف الشعب التونسي، بمختلف توجهاته الفكرية والسياسية وموقعه الجغرافي في البلاد.
وللتأكيد على ذلك، قال السنوسي إن "إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم المصادرة من قبل الحكومة التونسية اتخذ فيها رئيس الحكومة السابق، الحبيب الصيد، قراراً بإلحاقها بالإذاعة العمومية (الرسمية) التونسية، وهو نفس القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، لكن حزب حركة النهضة عطّل ذلك ورفض إلحاق إذاعة الزيتونة بالإذاعة الرسمية، وهنا يبرز التدخل الحزبي في الشأن الإعلامي".
وتابع أن "رئيس الجمهورية الحالي، الباجي قايد السبسي، يوظف الإعلام لفائدة شخصه، فهل من المعقول في إعلام تونس ما بعد الثورة يفتتح التلفزيون الرسمي نشرة أخباره الرئيسية بمقالة صادرة في صحيفة غربية تمجّد خصال رئيس الدولة، هذه الممارسات خلناها انتهت لكنها بدأت تعود للأسف بقوة من خلال وضع بعض المسؤولين عن جهاز دعاية النظام الذي أطاحت به الثورة في مراكز قيادية".
وعن اتهام "الهايكا" بالتدخّل في الشأن السياسي، قال السنوسي ساخراً "الهايكا لها وظيفة سياسية باعتبار أن الدستور التونسي منحها كثيراً من الأدوار؛ منها أنها قائمة على دعم الديمقراطية، والمسار الديمقراطي هو مسار سياسي بامتياز ولكن بعضهم يريد إفراغ الهايكا من وظيفتها التقريرية، مثلما لمح إلى ذلك رئيس الجمهورية في حوار مع إحدى الصحف التونسية عند حديثه عن الهيئات الدستورية".
وختم السنوسي بالقول إن "أزمة الإعلام التونسي بقدر ما هناك مسؤولية تتحملها المؤسسات الإعلامية، لكن الإرادة السياسية في الإصلاح تبقى هي المؤشر الأساسي لكل خطوة في خلق إعلام تونسي حرّ مستقل وتعددي".
تجدر الإشارة إلى أن "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري" (الهايكا) تلعب دوراً محورياً في المشهد السمعي البصري في تونس، منذ تأسيسها، إذ تمنح التراخيص القانونية للإذاعات والتلفزيونات الجديد، وتقوم بدور التعديل المابعدي لما تبثه هذه الإذاعات والتلفزيونات.
وتتدخل بفرض عقوبات مالية، وحتى إيقاف البرامج والتهديد بسحب التراخيص لكل من يقدم مادة إعلامية لا تراعي طبيعة المجتمع التونسي أو تمس السلم الأهلي، إلا أنها تتعرض أيضاً إلى جملة من الانتقادات حول دورها في إغراق المشهد السمعي البصري في تونس بإذاعات وتلفزيونات لا تمتلك القدرة على الاستمرار في العمل، ما يعرّض العاملين فيها إلى البطالة.