تحوّل القانون الأوروبي لحماية البيانات الشخصية (GDPR) الذي سيدخل حيز التنفيذ ابتداء من 25 مايو/أيار الجاري، من تشريع لدعم سيطرة المواطنين على المعلومات الخاصة بهم، إلى تهديد لحرية التعبير في بلجيكا، وذلك بسبب تفسير السلطات البلجيكية للقانون الأوروبي.
قانون شائك
يضطر جميع الصحافيين في بلجيكا، كما في أي دولة في العالم، إلى كتابة مقالاتهم، سواء التي تنشر في الطبعات الورقية للصحف أو على مواقع الإنترنت، إلى استعمال بيانات تحمل مجموعة من المعلومات الشخصية، كالأسماء الكاملة لشخص ما، والوظائف التي امتهنها، وعنوانه الجغرافي، وحتى آرائه عندما يتعلق الأمر بشخصية سياسية مثلاً. ويخضع الصحافي في عمله لقانون يحدد مجموعة من الحقوق والواجبات والقواعد ومدونات الأخلاق. فالعمل الصحافي يتعلق، في جزء كبير منه، بالتطرق إلى البيانات الشخصية للمواطنين. غير أن دخول القانون الأوروبي لحماية البيانات الشخصية حيز التنفيذ، في أواخر هذا الشهر، سيفرض على الصحافيين، وكل من يستعمل أي بيانات شخصية، احترام القواعد التي ينص عليها القانون الجديد. "سوف يعمل هذا الإطار القانوني الأوروبي على تقوية حقّ كل مواطن في الاطلاع على بياناته الشخصية وحذفها وتصحيحها والحد من استعمالها"، يفسر لـ "العربي الجديد"، الخبير في الشؤون الرقمية، جون فرانسوا لوفينس. ويضيف "كما يحق للمواطن الحد من اطلاع الآخرين على جميع المقالات المنشورة التي تحمل معلوماته الشخصية، أو حتى منع المقالات التي ستنشر، والتي تضم جزءا من بياناته الشخصية"، مشيرًا إلى أنه "من الواضح أن القانون الأوروبي لحماية البيانات الشخصية، الذي تعد القيمة الأساسية التي يدافع عنها هي الحق في حماية الحياة الخاصة للمواطنين، يساهم بشكل ما في انتهاك حق أساسي آخر، هو حرية التعبير، وبالطبع حرية الصحافة". ويشدد بنوع من القلق، "قد نواجه عمليات لإعادة كتابة المقالات في حال أراد بعض السياسيين أو المجرمين أو غيرهم حذف معلومات عنهم أو فرض إخفاء الهوية من أرشيف الصحف".
الاستثناء الصحافي
رغم بروز مجموعة من المشاكل المتعلقة بتطبيق القانون الأوروبي لحماية البيانات الشخصية، فإن المشرع الأوروبي لم يمنح أي دور للرقابة أو يسهل عمل أعداء الديمقراطية الذين يبدو أنهم يتضاعفون حتى في أوروبا، كما هو الحال في المجر، وفي جميع أنحاء العالم. فالقانون ينص صراحة على استثناءات لمعالجة البيانات الشخصية للأغراض الصحافية. أي حماية الحرية الأساسية للصحافيين لجمع المعلومات ومعالجتها وتخزينها ونشرها. "إذا كان القانون الأوروبي لحماية البيانات الشخصية قد وضع إطارًا موحدًا في أوروبا لحماية البيانات الشخصية، فلا وجود لتنسيق على المستوى الأوروبي في مسألة حماية حرية التعبير"، يذكر جون فرانسوا لوفينس. مفسرًا "لكل بلد الحق في وضع مؤشر الحرية عند أي درجة ترضيه. لذلك يشدد القانون الأوروبي على أنه على كل دولة عضو تحديد الاستثناءات القانونية لضمان التوازن الضروري بين حماية البيانات الشخصية من جهة والحق في حرية التعبير وحرية الصحافة من جهة أخرى".
وإذا كانت فرنسا وهولندا مثلاً قد اعتبرتا منذ الآن أن مجال الاستثناءات أوسع، كإشارة واضحة لأهمية حرية الصحافة في أي مجتمع ديمقراطي، فإن اللافت للنظر أن مشروع القانون الذي صاغته الحكومة البلجيكية يبدو أنه يحد من هذا الحق. إلى درجة أصبحت تقلق بشكل كبير الناشرين والصحافيين، الذين نشر 35 منهم رسالة مفتوحة لشجب مخاطر مثل هذا التفسير التقييدي والقسري للقانون الأوروبي لحماية البيانات الشخصية.
مشكلة معقدة
"تطبق بلجيكا القانون الأوروبي لحماية البيانات الشخصية بشكل كامل. ولكن مجموعة من البنود مصحوبة بالكثير من الشروط التقييدية"، تقول كاثرين أنسيو التي تمثل مصالح الناشرين. مضيفةً "علاوة على ذلك، فمن الصعب جدًا تلبية هذه الشروط. إذ يضيف المشرع الكثير من الشروط لكي يتم تبرير الاستثناءات، وهو ما يجعل العمل الصحافي بالغ التعقيد. إنها مشكلة حقيقية". يضاف إلى هذا مشكل إدارة الأرشيف. "يكفي، تقريبًا، أن يقول شخص إنه لا يريد أن يرى اسمه في مقال منشور في صحيفة ما حتى يتعين على إدارة الصحيفة حذف الأرشيفات التي تحمل هذه المعلومات أو إخفاء جميع المعلومات الشخصية في المقالات. إنها عملية صعبة.
كما أن مسألة معالجة البيانات الشخصية ستكون مشروطة حتى قبل صدور مقال ما. وهو ما يشكل نوعا من الرقابة"، تتابع كاثرين أنسيو. مشيرةً إلى وجود ضمانات كافية اليوم، بموجب القانون الجنائي على وجه الخصوص، لحماية المواطن من الأخطاء الصحافية المحتملة، أو حتى المعاملة غير المشروعة مع البيانات الشخصية. فقد أبرزت العديد من القضايا أمام القضاء البلجيكي، في السنوات الأخيرة، أن قرارات المحاكم تميل، في كثير من الأحيان، إلى تفضيل الحقوق الفردية في حماية الحياة الخاصة على حساب حريات الصحافة والتعبير. في وقت يزداد فيه العداء في بلجيكا وأوروبا وأماكن أخرى، من قبل بعض الحكومات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، لوسائل الإعلام والصحافيين. وهو ما يدفع جون فرانسوا لوفينس إلى القول "هذه القيود هي جزء من قرارات تخضع لتيار الانتقام من الصحافة. كما ترتبط بفكرة أنه يجب إنشاء مسؤولية جنائية للصحافيين. وقد منح تطبيق القانون الأوروبي لحماية البيانات الشخصية الفرصة لهؤلاء لكسر تقليد التوازن بين الحريات المنصوص عليها في القانون البلجيكي".
قلق عام دفع مكتب وزير الدولة المكلف بصياغة القانون، فيليب دو باكير، إلى العمل على طمأنة قطاع الصحافة، عبر التصريح بأنه "كانت هناك قراءة أولية من قبل الحكومة للقانون المقترح. وتلقينا رأي مجلس الدولة ولجنة حماية الخصوصية. وحتى الوزير نفسه، المدافع عن حرية الصحافة، يعتقد أن نص القانون غير واضح". وهو ما يعني عملياً أن الباب مازال مفتوحاً للتعديلات.