"الأغنية الميري" كان لها دور كبير في حياة الشعوب، استغلتها الأنظمة الشموليّة لتخاطب بها الجماهير، وتبتزّ مشاعرهم عبر الألحان والكلمات، وعادة ما كان لها دورٌ في تجميل صورة النظام القبيحة، وتزيين سوء عمله. وأسوأ ما قدمته "الأغنية الميري" كان التكريس لنظرية الحاكم الفرد، حين اختصرت الدولة في شخصه، والوطنية في نظامه.
وإذا كانت أغنية المقاومة والنقد السياسي تحمل شرفها من وقوفها على يسار السلطة، فإن الأغنية "الميري" تحمل عارها التاريخي بالوقوف على يمين النظام، بل الجلوس في حضنه.
كانت الموسيقى العسكريّة الألمانيّة والأغاني النازيّة تلهب حماسة المواطنين المنحازين لشخصية الدكتاتور، فيُساق الناس سوقاً إلى حتف الدولة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
أغنية "Horst-Wessel-Lied" العسكرية أصبحت نشيداً رسمياً للبلاد. يرفع القادة أيديهم اليمنى لتحية هتلر أثناء سماعها، بعض كلماتها كانت تقول: "قريباً، علم هتلر سيرفرف فوق كل الشوارع، والعبودية لن تـستمر وقتاً طويلاً". العالم العربي ليس خاليًا من الأنظمة الشمولية، التي تختصرُ الوطنيّة في تقديس اسم الملك أو السلطان أو الأمير أو الرئيس.
المغني أطول عمراً
عادةً ما يكون المطرب أطول عمراً من الحاكم الممدوح، لذلك فإنه يغني للعديد من الملوك المتتابعين، تتضمن كلمات كل أغنية مديحًا مطلقًا للحاكم في تلك اللحظة التاريخيّة، وتشير إلى إنجازاته غير المسبوقة، وإلى تمنّي بقائه حاكماً للأبد. المضمون واحد والحكام متغيّرون. ولكن بمجرد رحيل الحاكم، تتوجّه بوصلة المؤلفين والمطربين للحاكم الجديد، ليؤلفوا له نفس الأغاني التي تتضمن نفس الأوصاف.
مثلاً، يبدأ "فنان العرب" (وهو اللقب الذي أطلقه الحبيب بورقيبة على المطرب محمد عبده) مسيرته الميري بمديح الملك فيصل وولي عهده بأغنية: "ربنا واحد.. ودربنا واحد.. وكلنا فيصل.. وكلنا خالد".
وعندما مات فيصل غنى عبده للملك خالد وحده بدون فيصل: "خالد أنت ملكنا وأنت الوالد". ثم يرحل خالد، ويأتي فهد، ليغني له أبو نورة: "فهد فهد/ يا رمز باقي للأبد/ يا رمز وافي بالعهد". ثم تنشط الحياة الفنية الميري في عهد الملك عبد الله فيغني عبده: "العزيز الله/ والكريم الله/ وانت عبد الله/ أنت بعد الله"!. ثم يتولى سلمان الملك فيطلق "فنان ملوك العرب" أغنيته: "سيدي سلمان/ يا فخر الزمان"، وهكذا دواليك.
هذا النوع من الأغاني يشيع أيضاً تحت مظلة الأنظمة الانقلابية، ففي السودان سمعنا سيد خليفة يغني لجعفر نميري: "قائد الشعب يا نميري"، و"الفارس الجحجاح". وكان حسن خليفة العطبراوي يغني لثورة مايو وقائدها جعفر نميري: "يا قائد مسار الأمة". بعدها يأتي عمر البشير ويبدأ الناس في الغناء له، مثل جمال فرفور وأغنيته: "سير يا ريس سير".
فاروقيات أم كلثوم
في مصر، عانى مطربو الملكية قليلاً في العهد الناصري، قبل أن يخضعوا ويقدموا فروض الولاء والطاعة للنظام الجديد، وتبذل السلطات طاقتها القصوى في إخفاء الأغاني التي كانت تمدح الملك فاروق المخلوع من كبار الفنانين، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.
غنّت أم كلثوم للملك فاروق العديد من الأغاني التي يطلق عليها النقاد اسم "الفاروقيات"، بدأتها سنة 1936 بعد توليه العرش بأغنية: "الملك بين يديك في إقباله/ عوّذت ملكك بالنبي وآله". كما غنت بمناسبة ذكرى ميلاده قصيدة: "اجمعي يا مصر أزهار الأماني/ يوم ميلاد المليك". كما غنت سنة 1939 بمناسبة زواج ولي عهد إيران محمد رضا بهلوي من الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق، "مبروك على سموك وسموه/ دا تاج إيران والنيل الغالي.. ياللي القمر قال لك في علوه/ أغيب وتطلعي انت بدالي".
وعندما قامت الثورة على الملك فاروق، اختفت أم كلثوم عدة سنوات، أو لعلها أخفيت قسراً حتى تلين للنظام الجديد، وكان لا بد من محو الآثار السابقة، فقد نقلت الصحف المصرية خبراً سنة 1954 يقول: "توجهت الآنسة أم كلثوم في الأسبوع الماضي إلى محطة الإذاعة لتشرف بنفسها على تنقية بعض الأغاني، من فقرات خاصة بالعهد الماضي، ولانتزاع هذه الفقرات من التسجيلات، حتى يمكن إذاعتها نقيّة خالصة ليسمعها شعبٌ حرٌّ كريم".
للناصرية در
تبدأ بعد ذلك رحلة أم كلثوم في مديح النظام الجديد وقياداته وتوجهاته، فتغني لعبد الناصر: "يا جمال يا مثال الوطنية"، كما تغني بعد خطاب التنحي: "حبيب الشعب".
أقرأ أيضًا: هل تعرف المطرب الوحيد الذي غنّى "دويتو" أم كلثوم؟
محمد عبد الوهاب أيضاً لم تختلف مسيرته الميري عن مسيرة أم كلثوم، فبعد أن غنى للملك فاروق: "من كتر غيرتي عليك في القلب خبيتك/ وقلتلك يا فاروق القلب ده بيتك"؛ اضطر إلى أن يساير الجو السياسي الجديد فيغني لعبد الناصر "تسلم يا غالي"، ثم يلحن ويشارك في عدة أوبريتات منها أوبريت الجيل الصاعد، الذي لحنه وغنى فيه بصوته مقطع: "ثورة مارد للحرية/ هب ونادى بالقومية/ ردينا عليك يا جمال وإيدينا في إيديك يا جمال/ وطلعنا معاك يا جمال/ نبني ويّاك يا جمال/ حيوا معايا/ قولوا معايا/ عاش عبد الناصر عاش".
وبعد حادثة المنشية، التي أعدم النظام بسببها العديد من قيادات الإخوان، يغني عبد الوهاب "تسلم يا غالي". عبد الوهاب لم يكتف بمديح عبد الناصر فقد لحن لسيد مكاوي أغنية "مصر السادات". وهي من الأغاني القليلة في عصر السادات.
الفنان المصري عبد الحليم حافظ كان مطرب الناصرية الرسمي، والولد المدلل للزعيم، وما أكثر أغانيه في التغني بمشاريع عبد الناصر الكبرى. فغنّى: "قوم ارفع راسك واشبع حرية"، "وقلنا هنبني وادينا بنينا السد العالي"، و"يا حلاوة الشعب وهو بيهتف باسم حبيبه... واحنا اخترناك وهنمشي وراك... يا فاتح باب الحرية" وغيرها الكثير من الأغاني...
أقرأ أيضًا:في ذكرى وفاته.. لماذا أحب المطربون بليغ حمدي؟
أوبريتات ومهرجانات
في عصر مبارك، وقبيل الانفتاح الإعلامي والفضائي، كانت مصر مصدراً للثراء الفني، وكان يتم استدعاء الفنانين ليتطوعوا بالغناء في أوبريتات وطنية تمدح الرئيس مثل أوبريت "اخترناه"، وكان من بين من يتم استدعاؤهم مطربون غير مصريين، وهي عادة قديمة حتى أن صباح وفريد الأطرش كانت لهما أغنيات في مديح عبد الناصر، ولما اعتذرت إحدى المطربات العربيات عن الظهور في احتفالات أكتوبر، عاقبها وزير الإعلام، صفوت الشريف، عقاباً قاسيًا، بتجاهلها من جميع وسائل الإعلام المصريّة.
وبعد انقلاب السيسي، ظهرت مجموعة من الأعمال المتملقة، فمصطفى كامل يقدم أغنية مسروقة لحناً وكلمات بعنوان: "تسلم الأيادي" والتي ظهرت مرتبطة بالثناء على عملية فض اعتصام رابعة، كذلك جاءت أغنية "بشرة خير" لحسين الجسمي وهي ذات لحن مسروق من أغنية هندية، وكان هدفها تحفيز الناس للنزول للتصويت على الدستور الجديد. كما غنى علي الحجار لمدحت العدل أغنيته الفاشية ضد المعارضة: "أنتو شعب واحنا شعب... لينا رب وليكو رب"! في حين كان هناك وجود قوي لأغنية المهرجانات ذات الذوق المتدني لفظاً ومعنى ولحناً، مثل "مهرجان السيسي" لأوكا وأورتيغا.
أقرأ أيضًا:صوت الستّ
وإذا كانت أغنية المقاومة والنقد السياسي تحمل شرفها من وقوفها على يسار السلطة، فإن الأغنية "الميري" تحمل عارها التاريخي بالوقوف على يمين النظام، بل الجلوس في حضنه.
كانت الموسيقى العسكريّة الألمانيّة والأغاني النازيّة تلهب حماسة المواطنين المنحازين لشخصية الدكتاتور، فيُساق الناس سوقاً إلى حتف الدولة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
أغنية "Horst-Wessel-Lied" العسكرية أصبحت نشيداً رسمياً للبلاد. يرفع القادة أيديهم اليمنى لتحية هتلر أثناء سماعها، بعض كلماتها كانت تقول: "قريباً، علم هتلر سيرفرف فوق كل الشوارع، والعبودية لن تـستمر وقتاً طويلاً". العالم العربي ليس خاليًا من الأنظمة الشمولية، التي تختصرُ الوطنيّة في تقديس اسم الملك أو السلطان أو الأمير أو الرئيس.
المغني أطول عمراً
عادةً ما يكون المطرب أطول عمراً من الحاكم الممدوح، لذلك فإنه يغني للعديد من الملوك المتتابعين، تتضمن كلمات كل أغنية مديحًا مطلقًا للحاكم في تلك اللحظة التاريخيّة، وتشير إلى إنجازاته غير المسبوقة، وإلى تمنّي بقائه حاكماً للأبد. المضمون واحد والحكام متغيّرون. ولكن بمجرد رحيل الحاكم، تتوجّه بوصلة المؤلفين والمطربين للحاكم الجديد، ليؤلفوا له نفس الأغاني التي تتضمن نفس الأوصاف.
مثلاً، يبدأ "فنان العرب" (وهو اللقب الذي أطلقه الحبيب بورقيبة على المطرب محمد عبده) مسيرته الميري بمديح الملك فيصل وولي عهده بأغنية: "ربنا واحد.. ودربنا واحد.. وكلنا فيصل.. وكلنا خالد".
وعندما مات فيصل غنى عبده للملك خالد وحده بدون فيصل: "خالد أنت ملكنا وأنت الوالد". ثم يرحل خالد، ويأتي فهد، ليغني له أبو نورة: "فهد فهد/ يا رمز باقي للأبد/ يا رمز وافي بالعهد". ثم تنشط الحياة الفنية الميري في عهد الملك عبد الله فيغني عبده: "العزيز الله/ والكريم الله/ وانت عبد الله/ أنت بعد الله"!. ثم يتولى سلمان الملك فيطلق "فنان ملوك العرب" أغنيته: "سيدي سلمان/ يا فخر الزمان"، وهكذا دواليك.
هذا النوع من الأغاني يشيع أيضاً تحت مظلة الأنظمة الانقلابية، ففي السودان سمعنا سيد خليفة يغني لجعفر نميري: "قائد الشعب يا نميري"، و"الفارس الجحجاح". وكان حسن خليفة العطبراوي يغني لثورة مايو وقائدها جعفر نميري: "يا قائد مسار الأمة". بعدها يأتي عمر البشير ويبدأ الناس في الغناء له، مثل جمال فرفور وأغنيته: "سير يا ريس سير".
فاروقيات أم كلثوم
في مصر، عانى مطربو الملكية قليلاً في العهد الناصري، قبل أن يخضعوا ويقدموا فروض الولاء والطاعة للنظام الجديد، وتبذل السلطات طاقتها القصوى في إخفاء الأغاني التي كانت تمدح الملك فاروق المخلوع من كبار الفنانين، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.
غنّت أم كلثوم للملك فاروق العديد من الأغاني التي يطلق عليها النقاد اسم "الفاروقيات"، بدأتها سنة 1936 بعد توليه العرش بأغنية: "الملك بين يديك في إقباله/ عوّذت ملكك بالنبي وآله". كما غنت بمناسبة ذكرى ميلاده قصيدة: "اجمعي يا مصر أزهار الأماني/ يوم ميلاد المليك". كما غنت سنة 1939 بمناسبة زواج ولي عهد إيران محمد رضا بهلوي من الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق، "مبروك على سموك وسموه/ دا تاج إيران والنيل الغالي.. ياللي القمر قال لك في علوه/ أغيب وتطلعي انت بدالي".
وعندما قامت الثورة على الملك فاروق، اختفت أم كلثوم عدة سنوات، أو لعلها أخفيت قسراً حتى تلين للنظام الجديد، وكان لا بد من محو الآثار السابقة، فقد نقلت الصحف المصرية خبراً سنة 1954 يقول: "توجهت الآنسة أم كلثوم في الأسبوع الماضي إلى محطة الإذاعة لتشرف بنفسها على تنقية بعض الأغاني، من فقرات خاصة بالعهد الماضي، ولانتزاع هذه الفقرات من التسجيلات، حتى يمكن إذاعتها نقيّة خالصة ليسمعها شعبٌ حرٌّ كريم".
للناصرية در
تبدأ بعد ذلك رحلة أم كلثوم في مديح النظام الجديد وقياداته وتوجهاته، فتغني لعبد الناصر: "يا جمال يا مثال الوطنية"، كما تغني بعد خطاب التنحي: "حبيب الشعب".
أقرأ أيضًا: هل تعرف المطرب الوحيد الذي غنّى "دويتو" أم كلثوم؟
محمد عبد الوهاب أيضاً لم تختلف مسيرته الميري عن مسيرة أم كلثوم، فبعد أن غنى للملك فاروق: "من كتر غيرتي عليك في القلب خبيتك/ وقلتلك يا فاروق القلب ده بيتك"؛ اضطر إلى أن يساير الجو السياسي الجديد فيغني لعبد الناصر "تسلم يا غالي"، ثم يلحن ويشارك في عدة أوبريتات منها أوبريت الجيل الصاعد، الذي لحنه وغنى فيه بصوته مقطع: "ثورة مارد للحرية/ هب ونادى بالقومية/ ردينا عليك يا جمال وإيدينا في إيديك يا جمال/ وطلعنا معاك يا جمال/ نبني ويّاك يا جمال/ حيوا معايا/ قولوا معايا/ عاش عبد الناصر عاش".
وبعد حادثة المنشية، التي أعدم النظام بسببها العديد من قيادات الإخوان، يغني عبد الوهاب "تسلم يا غالي". عبد الوهاب لم يكتف بمديح عبد الناصر فقد لحن لسيد مكاوي أغنية "مصر السادات". وهي من الأغاني القليلة في عصر السادات.
الفنان المصري عبد الحليم حافظ كان مطرب الناصرية الرسمي، والولد المدلل للزعيم، وما أكثر أغانيه في التغني بمشاريع عبد الناصر الكبرى. فغنّى: "قوم ارفع راسك واشبع حرية"، "وقلنا هنبني وادينا بنينا السد العالي"، و"يا حلاوة الشعب وهو بيهتف باسم حبيبه... واحنا اخترناك وهنمشي وراك... يا فاتح باب الحرية" وغيرها الكثير من الأغاني...
أقرأ أيضًا:في ذكرى وفاته.. لماذا أحب المطربون بليغ حمدي؟
أوبريتات ومهرجانات
في عصر مبارك، وقبيل الانفتاح الإعلامي والفضائي، كانت مصر مصدراً للثراء الفني، وكان يتم استدعاء الفنانين ليتطوعوا بالغناء في أوبريتات وطنية تمدح الرئيس مثل أوبريت "اخترناه"، وكان من بين من يتم استدعاؤهم مطربون غير مصريين، وهي عادة قديمة حتى أن صباح وفريد الأطرش كانت لهما أغنيات في مديح عبد الناصر، ولما اعتذرت إحدى المطربات العربيات عن الظهور في احتفالات أكتوبر، عاقبها وزير الإعلام، صفوت الشريف، عقاباً قاسيًا، بتجاهلها من جميع وسائل الإعلام المصريّة.
وبعد انقلاب السيسي، ظهرت مجموعة من الأعمال المتملقة، فمصطفى كامل يقدم أغنية مسروقة لحناً وكلمات بعنوان: "تسلم الأيادي" والتي ظهرت مرتبطة بالثناء على عملية فض اعتصام رابعة، كذلك جاءت أغنية "بشرة خير" لحسين الجسمي وهي ذات لحن مسروق من أغنية هندية، وكان هدفها تحفيز الناس للنزول للتصويت على الدستور الجديد. كما غنى علي الحجار لمدحت العدل أغنيته الفاشية ضد المعارضة: "أنتو شعب واحنا شعب... لينا رب وليكو رب"! في حين كان هناك وجود قوي لأغنية المهرجانات ذات الذوق المتدني لفظاً ومعنى ولحناً، مثل "مهرجان السيسي" لأوكا وأورتيغا.
أقرأ أيضًا:صوت الستّ