"لم أقبض من أحد، ولم أكن في أي يوم تابعاً لأحد.. وتعودت على الحروب مع الجميع، بما في ذلك اليهود الذين ربطوا بين نجاحي العالمي وبينهم، على الرغم من أن هذا غير صحيح".
عمر الشريف
كتبت عن عمر الشريف في كتابي "نسوة ورجال .. ذكريات شاهد الرؤية" الصادر عام 2002. ولمناسبة رحيله، أول من أمس الجمعة، أكتب مقالتي عنه، هنا، كونه أحد أبرز الأسماء العربية التي وصلت إلى مرتبة العالمية خلال القرن العشرين. نعم، هو من أشهر الفنانين الممثلين الذين أنجبتهم مصر، ونجحوا في اختراق الفضاء العربي بنجوميتهم، ووصلوا إلى العالمية.. كنت على غرار أترابي من المعجبين بأعماله المصرية الأولى، ليس منذ زمن الطفولة، بل في سنوات الشباب. رجعت أبحث عن دوره الأول الذي جعله نجماً دولياً، لا يبارى، فكان ذلك في فيلم "لورنس العرب" الذي أنتج في العام 1962، ولما شاهدته لاحقاً، صدمني. إذ كان فيه تشويه واضح لأحداث تاريخ عربي قريب. واستمر اهتمامي بالنجم عمر الشريف، متابعاً بقية أعماله، خصوصاً في أثناء وجودي في الغرب. ولعل أهم مناسبة جعلتني، وجهاً لوجه، مع هذا الفنان الرائع كانت في إمارة موناكو في صيف العام 1982.
في حب الإسكندرية
ولد ميشال شلهوب (تسمى بعمر الشريف) في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1932 في الإسكندرية، لأب كان يعمل تاجر أخشاب، ومن عائلة آل شلهوب الكاثوليكية التي يقال إن أصلها من لبنان. وقد أحب الإسكندرية جداً، ودرس فيها، وبالذات في فيكتوريا كوليج التي تخرج فيها وبالدفعة نفسها الملك حسين وعدنان الخاشقجي ومحمد الفايد ويوسف شاهين ومشاهير غيرهم. ثم انتقلت عائلته إلى القاهرة.
وفي مطلع شبابه، اختاره يوسف شاهين للسينما المصرية، وقدمه في فيلم "صراع في النيل"، وأسند له دور البطولة أمام فاتن حمامة، فغدا نجماً مصرياً وعربياً في آن واحد. ووقع الحب بينه وبين فاتن، فأشهر إسلامه ليتزوج منها، ثم تنجب منه ولدهما الوحيد طارق (لم يمثّل إلا دور الابن في دكتور زيفاغو)، وبقي سنوات عدة نجماً لأفلام مصرية، حتى اختاره ديفيد لين ليمثل دوره في فيلم "لورنس أوف أربيا" في 1962، وهو في الثلاثين من العمر، واستحق عليه جائزة الرومنيشن، ثم شارك في فيلم "جنكيز خان" عام 1965، لكن بطولته لفيلم "دكتور زيفاغو" عام 1965 حققّت له جوائز دولية عدة. ولعب أدوار النجم في عدة أفلام، مثل: "جي" (1969)، و"السيدة المضحكة" (1975)، و"سارق قوس قزح" (1990)، و"مايرك" (1991) .. وعدة أفلام تلفزيونية، منها "بطرس الأكبر" (1986).
اقرأ أيضاً: عمر الشريف: الحياة حتى الرمق الأخير
البريدج وإجراءات عبد الناصر
ويعد عمر الشريف من أمهر لاعبي لعبة البريدج العالميين، فضلاً عن عشقه الخيول. وقد رجع قبل سنوات إلى مصر، بعد غيابه عنها طويلاً في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وقال إنه كان يتعذب جداً في الحصول على تأشيرة خروج في كل مرة يزور فيها مصر، بسبب تعليمات صلاح نصر القسرية. وهذا ما جرى لفنانين وفنانات مصريات وعربيات من ملاحقات، جعل بعضهن يهربن من مصر، وفي مقدمتهن فاتن حمامة.
عاد واستقر في القاهرة وشارك في تمثيل أدوار مصرية في أفلام سينمائية وتلفزيونية. ويروي أنه كان صديقاً حميماً لملوك وزعماء ونجوم عالميين، وأنه مداوم السفر إلى باريس التي يعتبرها نافذته إلى العالم. وعلى الرغم مما كتب عن مغامرات الرجل وأساليب حياته المتنوعة وعلاقاته النسوية، باعتباره "شهريار الشرق" أو "كازانوفا الغرب"، فذلك كله يدخل في باب حياته الشخصية، وهو حر فيها. لكن، المهم هو السؤال: هل نجح عمر الشريف في تقديم أروع إمكاناته؟ أجيب: نعم، نجح في تقديم إبداعاته إلى كل العالم. وبذلك، ترجم قدرات بلده وأهله وأمته في التفوق والقدرة في صناعة الإبداع، أو حتى المشاركة في الثقافة العالمية المعاصرة.
هناك فارق كبير بين الدور الذي لعبه عمر الشريف في "لورنس العرب" والدور الذي برع فيه في "دكتور زيفاغو".
وقد وقع الفنان الكبير بين سطوة كل من كاتب النص الروائي ومخرجه. وكلاهما لم يدركا طبيعة الحياة العربية، بل ولم يعرفا أبداً من يكون لورنس العرب، ولا مطالب العرب التي كان قد تقدم بها الحسين بن علي شريف مكة. ولن يدركا كيف كان يتصرف كل من الأخوين، عبد الله وفيصل. أما دور عمر الشريف في "دكتور زيفاغو" فنقلة في مشاركة العرب العالم إنتاجه الثقافي بأعلى صوره. التراب العربي غير قاصر على إنجاب العمالقة الذين يمكنهم صناعة الإبداع على مستوى عالمي. كان عمر الشريف رائعاً في أدائه الدور، وقد شاركه ابنه طارق، إذ مثل دور الابن.
واستطاع النجم أن يجسد كل المشاهد في غاية النضوج، بل ويتناغم وهو البطل مع تاريخ الأحداث العاصفة التي مرت بروسيا، ناهيكم عن تفاعله مع البيئة الباردة القاسية، وكأنه ابنها الحقيقي. وفي كل المشاهد الدرامية التي أداها بإحكام يفوق التصور، في حين عجز آخرون من الممثلين العالميين على تأدية أي مشاهد تاريخية أو درامية أو ميلو درامية تكون غير مألوفة لهم من الناحيتين، الثقافية والطبيعية، وحتى الشخصية.
قدرات تمثيلية عالية
لم يقصر عمر الشريف إبداعه في الذي قدّمه من مشاهد بطولية، في "دكتور زيفاغو" فحسب، بل استطاع أن يظهر قدراته المتفوقة، أيضاً، في بطولات أخرى، كالتي قدمها في "جي" و"السيدة المضحكة" وفي "سارق قوس قزح".. ذلك أنه نجح في أن ينتقل ببراعة من ثقافته الشرقية إلى الثقافة الغربية، فيمثل الأخيرة أبرع تمثيل. بل ونجح في الاندماج الحضاري، وغدا إنساناً يجيد لعبة التغريب إجادة تامة، من دون أن ينسى ثقافته وأصالته المصرية أبداً! إنه على الرغم من تعرضه لمزيد من الانتقادات الضارية، والتعليقات شديدة اللهجة، فلقد أثبتت الأيام أنه صاحب أصل برجوعه إلى حاضنته، بل ومن يراقب حضوره وبطولته فيلم الأراجوز يكتشف أشياء جديدة ومدهشة في هذا الإنسان الذي على الرغم من بقائه سنوات طويلة في الغرب، فإنه تفوق على أقرانه في تمثيل أدوار مصرية حقيقية، ليس في التمثيل فحسب، بل في الحياة التي أثبتت أنه لا يعرف الجشع أبدا بدليل أعماله الخيرية! وهذا هو سر عمر الشريف الذي لم يدركه إلا قليلون.
فضلاً عن حسن معاشرته الآخرين وخسرانه أموالاً طائلة في مقامراته الكبيرة، إلا أنه كان إنساناً حراً ومستقلاً بذاته، ويحب أن يعيش وحيداً من دون امرأة، وقد سئل مرة عن ذلك، فقال: لا أستطيع أن أتخيّل أن يشاركني أحد حتى في منامي.
اقرأ أيضاً: عمر الشريف وفاتن حمامة وعزالدين ذوالفقار: ثلاثي الفن والحبّ
تفوق الفنان المصري العالمي كثيراً في أدواره ومزاياه. وتجربته العالمية تعد من أبرز التجارب التاريخية المبدعة في حقل الشراكة الحضارية بين الشرق والغرب، خصوصا بين العرب والعالم.
الساحر الجميل
لم يكد يتأكد خبر وفاة النجم العالمي عمر الشريف، حتى نعاه كل الفنانين العرب، وأيضاً نجوم "هوليوود". فكتب أنطونيو بانديراس على حسابه على "تويتر": "كان راوياً عظيماً. كان صديقاً مخلصاً، وكان روحاً حكيمة. ارقد بسلام عمر الشريف"، ونشر صورتهما معاً. كذلك فإن باربرا ستاريسند كتبت تعليقاً على "فيسبوك: "كان جميلاً، وساحراً، معقداً، كان مصرياً فخوراً، وبنظر بعض الناس كانت مشاركته في فيلم FUNNY GIRL مثيرة للجدل، لكن بطريقة ما نجح بتخطي النمطية المرتبطة بالدور".