"هنا العذاب أكبر، هنا الألم مزدوج. نحن بين أحفاد هولاكو وهتلر". لم يعد أبو خالد قادراً أن يَصبر أكثر على مأساته في مدينة دير الزور. منذ أربعة أعوام، الوضع على حاله في حيّ الجورة.
ما زال هذا الحيّ تحت سيطرة النظام السوري، بعدما فشلت المعارضة السورية مراراً في السيطرة عليه، كذلك يخضع للحصار الذي فرضه تنظيم "داعش" منذ بداية العام الجاري. يُذكر أنّ كامل مناطق المعارضة في دير الزور هي تحت رحمة داعش منذ منتصف عام 2014. ومذ فرض الحصار، راحت المناطق تخلو شيئاً فشيئاً من المواد الغذائية والأساسية الأخرى، فيما يترافق ذلك مع انقطاع تام في التيار الكهربائي وفقدان الغاز ومادة الكلور لتعقيم المياه. والأخيرة لا تُوزّع إلا مرة في الأسبوع.
خلال الأشهر الأخيرة، خسر أبو خالد 24 كيلوغراماً من وزنه. لكنه لا يكترث لذلك، فهو ما زال يحتمل. ما يحرقه هو تأوّه أولاده الثلاثة الذي لا يقوى على سماعه. منذ أيام لم يحصلوا إلا على علبة من سمك السردين وأربعة أرغفة من الخبز وكيلوغرام واحد من البطاطا، هم الذين أصبحوا أشبه بالأشباح وتميل بشرتهم إلى الاصفرار في حين يبدو الوهن والكآبة واضحَين على وجوههم.
هذا العام، اقتحم زمهرير الشتاء بيته سريعاً، وما يتوفّر لديه من الحطب لا يكفي لإشعال الموقد. يتجمّد الدم في عروق لارا الأصغر سناً بين أولاده والأحب إلى قلبه. يضمها إلى صدره بقدر المستطاع لعله يمنحها من دفء محبته لها، ويغلغل أصابعه بصعوبة في شعرها الأشقر، قبل أن يسمع صوت معدتها. بقي ينصت إلى أنينها حتى الفجر، ليخرج بحثاً عن طعام يهدئ به معدتها الخاوية ويترك مهمة تدفئتها إلى والدتها.
وسط دوي الانفجارات، يخرج أبو خالد من منزله. المعارك على أشدّها بين قوات النظام وعناصر داعش أو الذين يطلقون على أنفسهم تسمية "المحررين الجدد"، في شوارع المدينة التي انقسمت إلى اثنتين. يبحث عن الطعام وهو يخشى سقوط قذيفة بالقرب منه، فيفارق الحياة على إثرها كما حصل لعمار بريجع، واحد من أصدقائه. هو لا يخشى على حياته، بل همّه العودة إلى طفلته بطعام. وراح ينبش كل المحال التجارية التي تحوّلت إلى مجالس يتبادل فيها الرجال أحاديث حول إمكانية فك الحصار والأسعار المرتفعة إلى حدّ الجنون.
ويتساءل أبو خالد: "هو الحصار أم القيامة؟". تأمين الطعام في مدينة دير الزور أصبح كمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ، في حين أنها كانت تُعرَف بخيراتها، وعلى هذا الأساس أطلق عليها داعش اسمها الجديد "ولاية الخير". ويتذكّر أبو خالد أنّ أحد أشهر التجار الذين قصدوا دير الزور في تسعينيات القرن الماضي، قال إنّ هذه المدينة لا بدّ أن تصبح تكساس الشرق الأوسط لغناها بالنفط. وها هي اليوم تتحوّل إلى "جحيم العالم".
بعدما بسط داعش سيطرته على كل المناطق التي كانت تستولي عليها المعارضة السورية في دير الزور منتصف عام 2014 على إثر معارك عنيفة، أصبح التنظيم على تماس مباشر مع قوات النظام التي تستولي على قسم صغير من إجمالي المحافظة. وهذا الحصار المزدوج خنق نحو 250 ألف إنسان، لم تتدخّل اللجنة الدولية للصليب الأحمر لإعانتهم إلا مرة واحدة، أدخلت خلالها مواداً غذائية لم تكف إلا نصف عدد المسجلين لدى فرع الهلال الأحمر العربي السوري في دير الزور، بحسب ما يلفت أحد العاملين في الهلال الذي خرج من المدينة قبل فترة قصيرة. يضيف لـ "العربي الجديد" أنّ "الأحياء المسكونة من مدينة دير الزور والواقعة تحت الحصار تبلغ مساحتها أربعة كيلومترات وهي تمثل نسبة 20% من مساحة المدينة"، مشيراً إلى أنّ "اللجنة كما أخبرتنا سابقاً كانت تخطط لإنزال المواد الغذائية أو إلقائها بواسطة طائرات. لكن النظام السوري عارض ذلك لأسباب سياسية".
حصار مزدوج
بعدما فرض تنظيم "داعش" حصاره على الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام السوري في دير الزور، أعلن أنّ كل من لا يخرج من تلك الأحياء "مستباح دمه وماله وعرضه". هو صنّف تلك الأحياء "بلاد كفر". من جهته، يمنع النظام السوري خروج المدنيين، مغلقاً جميع المعابر في وجههم، وتبقى حالات استثنائية يسهّل خلالها بعض الضباط الأمر بعد دفع مبالغ ماليّة طائلة.
اقرأ أيضاً: وسام محمد يوثّق جرائم دير الزور
اقرأ أيضاً: وسام محمد يوثّق جرائم دير الزور