غيابُ الخطاب أم غيابُ المخاطَبين؟

01 أكتوبر 2024

(شادي مرشد)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

في هذه الأزمات الطاحنة التي تتوزَّع في المنطقة العربية، من فلسطين إلى لبنان إلى السودان، وكذلك في سورية، وغيرها، يُوجَّه اللوم إلى المثقّفين، أو إلى العلماء وقادة الرأي والتأثير، لضعف دورهم، وانحسار مواقفهم، بما لا يرتقي إلى مستوى الأزمات والمخاطر. ومع الإقرار بوجاهة هذا الانتقاد، إلّا أنّ الموضوع يحتاج إلى استحضار جوانبه الأخرى.
ومع طول الجدل في أهمّية الكلمة، ومدى ما يُعوَّل على الأفكار، في سبيل تغيير مسارات التاريخ، فإنّنا لا نملك إلا أن نحاولها، حتّى ننجو من القدرية التي تُغيِّب الإرادة الإنسانية، وحتّى لا نتنصَّل من المسؤولية، مع قناعتنا بتفاوت المسؤوليات تبعاً للنفوذ والسلطة.
وحتّى لا يصير الخطاب مُجرَّد صرخة في وادٍ، لا مفرّ من النظر في عناصره، وملابساته، وفي عملية التخاطب. يلزم النظر أساساً في منشئ الخطاب ومتلقِّيه، وتحقّق الخطاب نفسه. ويمكن لطرفي الخطاب؛ المُخاطِب والمخاطَب، أن يتلاوما على خلفية التقصير والقصور. وقد يكون في نقد كلٍّ منهما الآخر صواب، فأرباب الخطاب مُعرَّضون لمراعاة مصالحهم ومخاوفهم، والمخاطَبون مُعرَّضون لصوارف الاستجابة لإحساسهم بثقل التكاليف التي يتوخَّاها الخطاب، ولاستلابهم لأولويات وواجبات مباشرة لن يؤدِّيَها عنهم سواهم، أو لتصورات حياتية تغلب عليها روح الاستهلاك، وملاحقة مُستجدَّاته التي لا تتوقَّف.

هل المُخاطَب متماثل، وجاهزٌ لتلقِّي الخطاب، أم له صوارف، تُغيِّبه كالانقسامات الطائفية، فالتخوُّف الطائفي يوازي أو يفوق مواجهة الخطر الخارجي؟

وقبل بعض التفصيل، قد يلزم التنبُّه إلى حُكمٍ عامٍّ يَصدُق على الجماعات والشعوب، وهو التفلّت والتنقُّل بين مراكز الاهتمام من قضية إلى أخرى. من قضية جادَّةٍ، إلى قضايا تافهةٍ تشغلهم، أو يُشغَلون بها، ومن الحماسة الفائقة إلى برود العاطفة وانطفاء الاهتمام بناءً على تقديرات بأنّ نَفَس الشعوب قصير، ما لم تنخرط فعلاً في قضيّة تصبح مفاعيلُها دافعةً لها، دفعاً شبيهاً باللاإرادي، أو الحاصل بقوّة خارجيةٍ أمسكت دولاب الحركة، كما حدث في الحروب العالمية، وفي الشعوب الأوروبية التي دخلت في أتون الحروب، فطحنت من نفوس أبناء الملايين، وكثير منهم كارهون، أو مُكرَهون، لكنّ مقتضيات الانتماء أقوى حينها من فردانية الأشخاص، فكان لوصمة الجبن والخيانة سطوةٌ غالبةٌ، أو أنّ التهديد الواقع والداهم لم يترك مناصاً من الدفاع عن الوطن، في قالب الدفاع عن الذات وعن المقرَّبين، فضلاً عن مُولِّدات الثأر والانتقام.
بالطبع، إنّ توسّع دائرة الصراع لينتج هذا الالتحاق المتواصل، لم يكن ليتحقّق لولا تحقّق نواة صلبة مؤمنة بضرورة الصراع، تواتيها الظروف التاريخية لتكون قادرةً على الحسم إزاء القوى الأخرى المُعارِضة، أو النقيضة.
لكنّ المسألة ابتداءً قد تكون في النظر في سؤال: هل المُخاطَب متماثل، وجاهزٌ لتلقِّي الخطاب، أم له صوارف، تُغيِّبه كالانقسامات الطائفية، إذ أصبح التخوُّف الطائفي يوازي أو يفوق مواجهة الخطر الخارجي، ذلك للتجارب المريرة التي وقعت فعلاً على خلفية طائفية، أو باستخدام الأبعاد الطائفية لقدرتها على الحشد والاستنفار باستدعاء مخاوفَ مزمنةٍ ومظلومياتٍ تاريخيةٍ تصبح أقربَ إلى الاشتعال وقت غياب خطابٍ حاسمٍ قادرٍ على طيِّها أو تنحيتها، أو تعطيل عملها الجماعي السياسي.
ثمّ تأتينا الإنهاكات الناجمة عن خيبات سابقة، كإخفاق ثورات الشعوب العربية، ومن قَبْلها الهزائم التي مُنِيت بها دولٌ عربية في مواجهة دولة الاحتلال، نجمَ عنها شعور كثيرين بأنّ الموضوعات السياسية العامّة ليست من شأنهم، أنَّ لها ناسَها، إذ عطَّل التهميشُ الطويل للعمل السياسي الجماعي والحزبي، والأُطُر الطلابية والنقابية وسواها، فاعليةَ الانخراط السياسي، وحتّى القدرةَ على التنظيم والحشد والتوجيه وصولاً إلى إحداث تأثير ضاغط.
وبعد ذلك، أغلب الناس واقعون تحت انشغالات مُلحَّة وثقيلة من أجل توفير واجبات الحياة الأساسية. ويتفرّع من هذه الإكراهات الفردية (وعلى العكس من معوقات الأعباء) شِقٌّ مناقض لها، وهو تلك الأوساط المجتمعية الانعزالية، أو العاجيَّة، التي لا تشعر بأنّ الواقع يتطلَّب أيَّ تغيير؛ لأنّهم نجحوا في التموضع في موضع الإشباع والرفاهية، بل هؤلاء يخشون أيَّ تغيير، ومِن شأنهم العمل ضدَّه.
فأُولى أولويات الخطاب، حتّى يندفع ويكتسب حماسته اللازمة، أن تظهر على المُخاطَب العنايةُ بحمولات الخطاب، أن يتشوَّق لسماعه، أو أن يشغله، أو على الأقلّ أن يجد في نفسه الاستعداد للعناية به، تفهُّماً له وتمحيصاً، والتزاماً به على المستوى المفاهيمي، أو على المستوى العملي. وهنا، لا بدَّ من استدعاء بيتَي الشعر الشهيرَين، المنسوبين إلى الشاعر المُخضرَم عمرو بن معد يكرب: "لَقَد أَسمَعتَ لَو نادَيتَ حَيّاً/ وَلَكِن لا حَياةَ لِمَن تُنادي/ ولو ناراً نفخْتَ بها أضاءت/ ولكن أنتَ تنفخُ في الرمادِ".

نحتاج إلى توفير خطاب جامع يبلور قواسمَ مشتركةً يحتاجها الجميع؛ وتوفُّر قوّة فعلية حاسمة تنجح في تحقيق نجاحات مادّية تعيد الأمل

وبخصوص الجماهير، فإنّها والزعيم حجرا الرَحَى، فهي محتاجة إلى زعيم يلهمها، ويلتحم مع تطلعاتها، ويتحمَّل أمنياتها. إذ النقص يتعدَّى فقدان مثل هذا الزعيم بتلك المواصفات الجامعة، إلى تفكُّك الجماهير وتذرُّرها، إلى أفراد يغلب عليهم التقولب والانكفاء. وثمة أملان، أو نوعان من العلاج؛ طويل المدى، وهو توفير خطاب جامع قادر على بلورة قواسمَ مشتركةٍ يحتاجها الجميع؛ والثاني توفُّر قوّة فعلية حاسمة تنجح في تحقيق نجاحات مادّية تعيد الأمل.
ونحن إزاء منتظَرات الخطاب محتاجون إلى بعض التمهُّل، إذ الخطاب الراهن، المتولِّد من رحم الأزمات الواقعة والمُتمدِّدة، في كثير من أحيانه، لا يتغيَّا مطالبَ محدودة مُحدَّدة، تحقَّقت الجاهزية لتلبيتها، إذ مثل هذه المطالب يسارع الناس إلى فِعلها بصورة تلقائية أو بأدنى مناشدة، كما يحدث في لبنان من إيواء أهل الجنوب، الفارّين من نار الحرب. إنّ المطلوب الذي يطمح له الخطاب، والذي يمكن أن يُحدِث أثراً يوقف المأساة في غزّة، مثلاً، أو في لبنان، أو في السودان، لم تلتئم حالة فكرية سياسية ومجتمعية لتحقيقه، فالجيوش العربية مثلاً لم تُبْنَ عقيدتُها العسكرية للتعامُل مع هذا النوع من التحدّيات، والأوساط السياسية والطبقات الحاكمة في وادٍ آخرَ غير الوادي الذي فيه المصطلون بالحروب وويلاتها، والبنية القيمية الاجتماعية لم ترتقِ إلى درجة تقديم التضحيات اللازمة، وهي ليست هيِّنة أو رمزية.
قد يسبق إلى الأذهان أنّ الزمن طويل، حتّى النضج المأمول، إلّا أنّ ذلك ليس مُؤكَّداً، فقد يسهم تفاعل الأفكار مع الأحداث المتسارعة في اختصار الزمن، قد تتحقَّق نتائج بوتائر سريعة ما لم نلمسه في عقود من الزمن، ويبقى من المفيد مراكمةُ أفكار بنائية، حين يحسُّ الناس بنضج استعداداتهم ينقادون، لا بفراغ العواطف، ولكن بما ترسَّب في وعيهم من قناعات مُشترَكة أو متقاربة.