"الإخوان".. ترك الصراع على السلطة أم الانزواء في التاريخ؟
تحدّث القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، إبراهيم منير، في مصر لوكالة رويترز للأنباء، نهاية الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وذكر أن الجماعة "لن تخوض صراعاً جديداً على السلطة في مصر". وبعد تصريحه بيومين، نفى مصطفى طُلبة، باعتباره ممثل "اللجنة القائمة بعمل المرشد العام"، أن تكون الجماعة ناقشت هذه المسألة، وقال إن منير جرى إعفاؤه من موقعَيْ نائب المرشد العام والقائم بأعماله، منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ويمثّل طُلبة الجبهة المحسوبة على محمود حسين في التنظيم. ولهذه التقسيمات جذور منذ ستين عاماً تقريباً، وفروع لاحقة، ويحتاج كل من الجذور والفروع لبيان وكشف بعض الجوانب.
خرج قادة جماعة الإخوان المسلمين الأوائل من السجون عام 1974 في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وكان النشاط الديني الطلابي في بواكيره، وانجذب جيلُ الشباب من الطلاب إلى أصحاب التضحيات، ولم تكن هناك مؤشّرات إلى وجود ثلاث ثقافات داخل جسد الجماعة، وهي التي اكتمل ظهورها على مدار ربع قرن بعد الخروج من السجون؛ فقد كانت هناك أفكار الذين اختلطوا بالمؤسس حسن البنّا في العمل الأهلي، وأفكار مجموعة النظام الخاص الذين عاصروا البنّا أيضاً، وأفكار مجموعة قضية تنظيم عام 1965، الذين اعتقلوا مع سيد قطب.
الحاصل أن الشباب انجذب إلى مجموعة التنظيم الخاص، وابتعدوا عن مجموعة تنظيم 1965 لسبب غير واضح، وابتعدوا كذلك عن مجموعة البنّا بسبب عدم التزامهم بما يُسمّى الهدي الظاهر، مثل اللحية، واستماعهم الموسيقى، وشرب بعضهم السجائر، فسيطرت مجموعة النظام الخاص على مفاصل الجماعة. ومع تقدّمهم في السن، اتجهوا إلى توريث المواقع القيادية داخل التنظيم إلى القيادات الوسيطة التي اعتُقلت عام 1965. ومن هنا، بدأ خط جديد يدخل على مسار عمل الجماعة في العقود الثلاثة الأخيرة لها، وتحكّموا خلالها في قرارات الجماعة عبر مواقع الأمانة العامة للتنظيم ولجنة التربية. وخلال هذه العقود وقعت اعتقالات عام 1995، وكانت الأشرس بعد الخروج من السجون عام 1974، وهنا كان قد حدث انصهار بين مجموعتي النظام الخاص وتنظيم 1965، وظهرت مشكلة جيل من الشباب الذين شكّلوا حزب الوسط، في محاولة لمزاولة السياسة في إطار قانوني، وحظي المشروع بموافقة مبدئية. ومع التقدّم في العمل، تم التخلي عنهم، وفصلهم عندما قرّروا الاستمرار في مشروعهم، واعترض بشدّة حينها عبد المنعم أبو الفتوح، رافضاً قرارات الفصل، وبدا أن قيادة الجماعة متماسكة إلا صوتاً واحداً.
عقب الانقلاب العسكري في 2013، ظهر منعطف تاريخي جديد في الجماعة. كان ثمّة سخط واضح داخل الجماعة بسبب حدوث الانقلاب
كانت السنوات الثلاث الأخيرة قبل الثورة أبرز محطّات الخلاف الداخلي؛ فبدأ الخلاف يظهر إلى العلن عقب إصدار القراءة الأولى لمشروع برنامج حزب الإخوان المسلمين، ثم كانت المحطة الثانية عند وفاة أحد أعضاء مكتب الإرشاد (محمد هلال)، وكان من المفترض أن يتم تصعيد الراحل عصام العريان إلى المكتب لاعتبارات لائحية، ولم يحدث هذا، ثم جرت انتخابات مكتب الإرشاد عام 2009، وخرج حينها إبراهيم الزعفراني بمذكرة عن مخالفاتٍ شابتها.
طوال سنوات نشأة التنظيم على يد البنا عام 1928، كان التنظيم جسداً واحداً من حيث الشكل الإداري، كما استطاع أن يتجاوز سريعاً أزماتٍ عديدة كالتي ذُكرت، وأزمة كبرى مثل انتخاب المستشار حسن الهضيبي ورفض التنظيم الخاص له. وعقب الانقلاب العسكري في 2013، ظهر منعطف تاريخي جديد في الجماعة. كان ثمة سخط واضح داخل الجماعة بسبب حدوث الانقلاب، فضلاً عن اعتقال قيادة الصف الأول على مدار أسابيع قليلة، وتعقُّدُ الاتصال بالناجين من الاعتقال أو القتل، فتشكّلت لجنة إدارة الأزمة في فبراير/ شباط 2014، وهي التي تُنسب إليها أعمال مواجهة قوات الأمن خلال فضّ التظاهرات. وبعد ذلك، نُسبت إليها أعمال عنف مسلّح ضد الأجهزة الأمنية وشخصيات رسمية أو مقرّبة من النظام، وبدأ الانقسام الأول الكبير يظهر في الجماعة.
كان الشباب أقرب إلى لجنة إدارة الأزمة، وهي المجموعة التي عُرفت باسم مجموعة محمد كمال، وكانوا وقتها كتلة كبيرة من الجماعة. وبالتالي، لا يمكن اعتبار كل من فيها متورّطاً في العنف؛ وإلا لكانت مساحات الصدام المسلح أوسع بكثير مما أصدرته البيانات الرسمية من وقائع عنف. أما المجموعة الأخرى فقد كان يمثّلها محمد عبد الرحمن حتى اعتقاله، وجرى احتواء هذا الانقسام بوسائل طبيعية، مثل الحوار والنقاش، ووسائل أخرى، مثل منع مساعداتٍ مالية، أو منع الدعم القانوني لمن يتبع المجموعة الأخرى إدارياً، وسمعنا رواياتٍ من أطراف مختلفة عن تعامل بعضهم مع الأمن والإبلاغ عن المحسوبين على المسار المعارض للقيادة القديمة للجماعة، وهي الأمور التي لا تزال تحتاج إلى إخراج شهادات موثّقة.
دخلت الجماعة في سلسلة من الممارسات الخاطئة في العقدين الأخيرين، وكانت مرحلة ما بعد الثورة الأكثر وضوحاً في خطأ الممارسات
تم احتواء الانقسام في النهاية لصالح قيادات تنظيم 1965 ووَرَثَتِهم الذين تأهّلوا إلى المواقع القيادية، بعد قرابة خمس سنوات من الانقلاب العسكري، وبدأ جسم الجماعة في الالتحام مرة أخرى لكن الجراح لم يتم تطهيرها، في ظل إدارة غير ناجحة للملفات، وخرجت تسريباتٌ تتعلق بفساد مالي في قيادة الجماعة القديمة، ونتج عن ذلك هذا الانقسام الذي نشهده حالياً بين المجموعة التي حرفت مسار الجماعة من قبل، واتهمت خصومها بكل النقائص، أنهم أصبحوا معرّضين للاتهامات نفسها، وبصورة أكثر قابلية للتصديق من خصومهم السابقين، وتستلزم هذه الحالة النظر في أسبابها، والتفكير بصورة أعمق من اعتبارها نتيجة الأخطاء الإدارية.
دخلت الجماعة في سلسلة من الممارسات الخاطئة في العقدين الأخيرين، وكانت مرحلة ما بعد الثورة الأكثر وضوحاً في خطأ الممارسات، وجرى اختطاف قرار الجماعة بواسطة النافذين في القيادة لتغيير هذا المسار. أما على مستوى التفاهمات السياسية المحلية والدولية، كانت كل الخيوط تتجمع بيد شخص واحد، فكانت السفيرة الأميركية وقيادات أميركية تزور مكتب الإرشاد بصورة بروتوكولية، وتذهب بعدها إلى مكتب خاص بالمهندس خيرت الشاطر للترتيبات النهائية، وهو الذي كان قبل انتمائه للإخوان المسلمين أحد أفراد التنظيم الطليعي الذي أنشأه عبد الناصر ليخترق كل مؤسسات الدولة. كانت القيادات العسكرية تلتقي به في أي ترتيبات تتم، كما هنْدس التحالف الديني في مواجهة العلمانيين، وجعل المجموعات الأكثر ابتعاداً عن السياسة، والأكثر تشدّداً في فهم النص الديني، هي الجماعات الأقرب إلى "الإخوان المسلمين"، وقد كان البنّا ابناً لمدرسة دينية مختلفة، فاستطاع أن يجعل جماعته ملء السمع والبصر، لقربها من ثقافة عموم المسلمين، لا المصريين فحسب.
ثم جاءت مرحلة ما قبل الانقلاب، وكانت الأمور واضحة الاتجاهات، لكن خللاً حدث في قرار الجماعة، جعلها تحثُّ السير نحو الهاوية بدلاً من التوقف وتغيير المسار. وتحتاج هذه المسألة إلى التنقيب في أسبابها، والجواب أن ما جرى كان نتيجة سوء تقدير القيادة سيكون جواباً خاطئاً، فالأمر يقترب من كونه كان سيراً متعمّداً ومقصوداً يقوم به بعضهم من أجل الوصول إلى تلك النتيجة، خصوصاً القرارات الإدارية المريبة التي كانت تزيد من تعقيدات الوضع المصري.
المحصّلة أن الجماعة عانت من خلل إداري، لكنه كان نتيجةً حتميةً لاختراق أمني حصل في مفاصل المؤسسة. ومن المهم التأكيد أن هذا لا يعني اختراقاً كاملاً، بل كان، على الأقل، (اختراقاً فعّالاً؛ دخل إلى مواضع صنع القرار)، ولا يستلزم هذا وصم عموم التنظيم الذين آمنوا بفكرتهم وعملوا لأجلها، ولا وصم كل القيادات، فبالطبع كان منهم من يعمل لما أعلنه من مبادئ وقيم.
خطوة ترك الصراع على السلطة تحتاج دعماً من العقلاء، لا إضعافاً لها، وتحتاج صدقاً في إرادة التحوّل
يستلزم هذا الوضع المزري الذي بلغته الجماعة في مصر، وتأثرت به فروعها في كل مكان، التساؤل حول مصيرها، والمستقبل خط يتصل بالماضي والنشأة، وقد حملت الجماعة في نشأتها أفكاراً من عمق التراث الديني للأمة بروحٍ تتوافق مع زمن النشأة، كما أنها كانت، منذ نشأتها، تختلف مع فكرة الاستبداد، وعامِلَا الوسطية والبُعد عن الاستبداد جعلا الجماعة جزءاً من التيار الأساسي للمجتمع المصري والأمة الإسلامية فانتشرت، فلم تستطع مؤسّسة أن تملأ فراغ "الإخوان"؛ فالأزهر في مصر يحمل منارة الوسطية، لكنه، بطبيعة نصوصه القانونية المنظِّمة لعمله، ليس مؤسّسة سياسية تقف في المناطق التنافسية، وتوجد تجمّعات مصرية معارضة للاستبداد، لكنها تقف مواقف مصادمة لثقافة المجتمع المصري، فبقي فراغ الإخوان غير مملوء. ومن هنا، كانت خطوة إبراهيم منير بمثابة بدء مسار ضبط بوصلة الجماعة، لكنها مرحلة ستحتاج إلى قيادة روحية لا قيادة سياسية، فمسار الجماعات الروحية التي لا تنافس على السلطة يختلف عن مسار الجماعات السياسية، وهذا الفصلُ مؤسَّسِيّ وفصل تخصُّص، لا فصل أفكار؛ إذ لا تفصل الثقافة الإسلامية بين الدين والدنيا، لكن طبيعة القدرات الذاتية للأفراد هي التي تستدعي الفصل بين الوظائف والقائمين عليها.
إذا نَحّيْنَا العقدين الأخيرين من ممارسات الجماعة، واعتبرناهما فترة انحدار طبيعية في مسار الاجتماع البشري، فإن خطوة ترك الصراع على السلطة تحتاج دعماً من العقلاء، لا إضعافاً لها، وتحتاج صدقاً في إرادة التحوّل، والتشجيع والدعم سلوك وطني مع أي تنظيمٍ يقوم بخطوة تفيد وطنه، وقد كانت آفة مرحلة ما بعد الثورة أنْ تركّز الحوار بين الفرقاء على الخلافات، لا على مساحات الوفاق، فانتهينا إلى قمع الجميع، ومسار حريتهم يبدأ من الطريق المعاكس، وهو دعم مساحات الوفاق.
الجماعة التي امتد تاريخها إلى أكثر من تسعة عقود توشك اليوم على الانزواء في التاريخ، واحدة من الجماعات التي مرّت في التاريخ وأصابتها دورة الحياة الطبيعية من النشأة إلى الانتهاء، ويمكن أن تكون مجرّد مرحلة حرجة، وإذا نجح الإخوان في إنهاء الخلل الإداري والثقافي الذي أصاب الجماعة، فسيكون هذا التنظيم، بحجمه وصدق عاطفة عموم أفراده، دافعاً قوياً لنهضةٍ مصريةٍ كبيرة؛ إذ لا يوجد تنظيم مصري بهذا الحجم، ولا يوجد تنظيمٌ يستطيع تحمّل الضربات الأمنية شديدة القسوة التي لحقت به، إلا تنظيم الإخوان المسلمين. ولم يضعف "الإخوان" من قوة الضربات الأمنية بالقدر نفسه الذي تسبّب به الانقسام الداخلي، والمراقب للجماعة عن كثب يعلم جيّداً حجم شبكات التواصل الاجتماعية التي استمرّت على استحياء بعد الانقلاب. ويمكن أن تتحوّل في لحظة مناسبة إلى شبكة متكاملة، إذا تمت معالجة العيوب، ومكاشفة الأفراد بما عاشته الجماعة، وعندها ستهنأ الحركة الوطنية المصرية بوجود فصيل وطني قوي، يشترك في العمل في مساحات التوافق الوطني، وسيكون هناك تنظيم يقف أمام الأفكار المتطرّفة، ولا يتصادم مع الثقافة العامة للمصريين، سواء تجاه التشدّد أو تجاه تغييب القيم الدينية.