"الائتلاف" السوري .. إصلاح أم انقلاب أم إفلاس؟
تتوالى الإقالات والفصل والانسحابات من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وتتبادل تياراتٌ كانت تشكله الاتهامات بالعمالة للنظام أو للدولة التركية. يدّعي رافضو الإقالات أن "الائتلاف" انقلب على تاريخه. ويدّعي المسيطرون ضرورة الإصلاح، ومن أُقيل كان يَلجم ذلك الإصلاح. المفردات استخدمها النظام طويلاً، انقلاب، حركة تصحيحية، وبعد عام 2000 الإصلاح والتحديث، وننتظر، نحن، تياراً في الائتلاف يُعلن التحديث. تقول الانتقادات من خارج الكتل المنسحبة والمُقالة والإصلاحية إن هذه الكتل لا تمثل مصالح الشعب السوري، وغارقة بالشللية والفساد والتبعية، وأن "الائتلاف" ذاته تشكّل على أساس المحاصصات، وأن "الانقلاب" الأخير للكتلة الداعمة الرئيس الحالي لـ"الائتلاف"، سالم المسلط، قامت بإصلاحاتها انسجاماً مع مواقف الداعم التركي، وهناك تسريباتٌ عن لقاءاتٍ جرت بين شخصيات تركية أمنية وقادة من مجموعة المسلط، وطلبت من الأخيرة القيام بتلك الإصلاحات، وإبعاد شخصياتٍ وكتلٍ سياسية معينة.
هناك إجماعٌ لدى السوريين المعارضين أن "الائتلاف"، بكل ممارساته ومواقفه، وبكل كتله لم يعد يمثل الثورة، أو المعارضة، أو السوريين عامة، وأقول السوريين باعتبار أن النظام لا يمثلهم، ويفترض أن تمثل مصالحَهم المعارضة؛ وهي وظيفة كل معارضة جادّة. توفّرت لهذا الإجماع فرصة ثمينة للنقاش الجاد في سياسات "الائتلاف"، المعترف به دولياً. وفعلاً، ناقشت شخصيات في ندوة الدوحة، أوائل فبراير/ شباط الماضي، الواقع المأزوم لـ "الائتلاف" وضرورة إحداث تغييرات كبرى في سياساته، تُعيد له وطنيته واستقلاليته، والتعبير عن المسألة السورية. هناك انتقادات سابقة وجهتها تياراتٌ كثيرة لـ "الائتلاف"، وسابقة لندوة الدوحة، ولم تثر اهتمام قادة هذا "الائتلاف"، وأصدر الأخير بياناً يؤكد استمراريته بما كان يفعله من قبل، فلماذا تتصارع الآن كتله، وتُهَاجم بعضها بقوّةٍ شديدةٍ؟
حالة التأزم الشديد، والتبعية الكبيرة للخارج، وعدم النقاش الجاد لمشكلات الائتلاف، حتى التصريحات التي أطلقها، قبل أسابيع، وزير خارجية قطر الأسبق، حمد بن جاسم، لم تُنَاقش، وتضمّنت أن المعارضة "سَلَطة" ومخترقة من النظام، وهو ما أكّده وزير الداخلية التابعة لحكومة "الائتلاف"، محي الدين الهرموش، أخيرا، وذلك كله يفيد بأن "الائتلاف" لم يعد، على الرغم من إصلاحاته وانقلاباته، قادراً على تمثيل المعارضة، وبالتأكيد ليس في مقدوره تمثيل كل السوريين.
ضرورة لإعادة إنتاج المعارضة، وليس فقط خطها السياسي، وبما يليق بآلام السوريين، وأن تعي المعارضة الجديدة الحالة المأزومة التي وصلت إليها سورية
غياب الكتل السياسية الكردية الوازنة عنه، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، وخروج أغلبية قوى المعارضة، ومنذ سنوات منه، وغياب المواقف الوطنية إزاء الاحتلالات الخارجية لسورية باستثناء الإيرانيين، وبشكلٍ أخفّ، الروس، يقول بضرورة تشكيل معارضة جديدة، تُنهي "الائتلاف" الحالي، أو أن يُستخدم مساحةً للنقاش الجاد، بهدف إنتاج معارضة وطنية وعقلانية وقادرة على تمثيل كل السوريين، وليس المناطق التي أصبحت خارج سيطرة النظام فقط، والمحدّدة بمناطق سيطرة الفصائل التابعة لتركيا، بينما مناطق سيطرة "قسد" وهيئة تحرير الشام لا علاقة لـ "الائتلاف" بها، والأسوأ أن الأخير لا يسيطر حتى على مناطق سيطرة الفصائل، وبالتالي ما هي مبرّرات وجوده، وكيف ستتمثل مصالح السوريين في هيئة المفاوضات أو لقاء أستانة أو في اللجنة الدستورية؟
رأينا، في الأسابيع الأخيرة، حركة واسعة ولقاءات كثيرة لسالم المسلط، داخل سورية وخارجها، وضمن منتدى الدوحة في دورته العشرين. ولكن غياب البرنامج الواضح للمعارضة جعل تلك اللقاءات عديمة الفاعلية، وأقرب إلى شرعنة نفسه قائدا سياسيا "أبديا"، سيما أن وفود "الائتلاف" تتمثل في لقاء أستانة واللجنة الدستورية، والتي تشارك بأَعمالها كل من تركيا وإيران وروسيا! وبالتالي، هناك ضرورة لإعادة إنتاج المعارضة، وليس فقط خطها السياسي، وبما يليق بآلام السوريين، وأن تعي المعارضة الجديدة الحالة المأزومة التي وصلت إليها سورية، وتضع تصوّرات وسياسات ورؤى وطنية، وتتمثل فيها بالفعل التيارات المتعدّدة للمعارضة، وفي الوقت ذاته، تفتح ملفات الفساد الكبيرة، أو الاختراقات التي تحدّث عنها وزير الداخلية، بما يعيد الثقة بـ "الائتلاف"، ويقدمه جهة ثورية للداخل وللخارج.
الوضعُ معقدٌ للغاية، وتأزّم العلاقات الروسية الأميركية يشكّل سبباً مباشراً لحالة الاستنقاع السورية، وهو مفتوح نحو مزيد من الانقسام والتفكّك والتبعية والتهتك
المعارضة الحالية مفلسة بالكامل، والمجموعات المنسحبة أو المُقالة، وهي كثيرة، ليست بديلاً. وبعهدها "مع الإصلاحية"، أصبح "الائتلاف"، في وضعيته التابعة والمشلولة داخلياً وخارجياً. انقسام سورية إلى أربع مناطق، وتَحكّم دول متعدّدة فيها، وحالة الضعف الشديد لـ "الائتلاف"، الموضحة أعلاه، تَفتَرِضُ أن يَتبِعَ الأخير مواقف لا تقتصر على حركاتٍ ترقيعية، إصلاحات، ولا تأجيج الصراعات بين كتله، فهذا لا يقدّم ولا يؤخّر بشيءٍ. هناك ضرورة للنقاش بين كل المعارضة الوازنة والشخصيات المستقلة، وحتى هذا قد لا يغير كثيراً في وضع المعارضة المأزوم؛ فسورية أصبحت مؤقلمة ومدوّلة، ولم تعد رهن يد السوريين، لا معارضة ولا نظام. هذا الواقع الفعلي هو ما لا تريد رؤيته كتل "الائتلاف" المتصارعة حالياً، وبالتالي يصبح خيار السوريين العمل من خارج هذا "الائتلاف". هنا التعقيد الشديد، حيث أصبحت الكتل والشخصيات غير الممثلة فيه في حالةِ عجزٍ وهزيمةٍ كاملة وشعورٍ بعدم القدرة على مواجهة الحالة التي وصلت إليها المعارضة وسورية.
هل نقول إنه ليس من خيارات سورية في اللحظة الراهنة والتي تليها. للحق، الوضعُ معقدٌ للغاية، وتأزّم العلاقات الروسية الأميركية يشكّل سبباً مباشراً لحالة الاستنقاع السورية، وتطورات الصراع في أوكرانيا وعليها يدفع إلى التشاؤم أكثر فأكثر. وبالتالي، الوضع السوري مفتوح نحو مزيد من الانقسام والتفكّك والتبعية والتهتك.
نعم، هناك إفلاس كامل للمعارضة السورية، وهو يشمل قوى الائتلاف الوطني المتصارعة، وغير الممثلة فيه، ما دامت غير قادرة على تغيير أوضاع المعارضة. وبالتالي، لا تعبر الصراعات بين تيارات المعارضة المتنوعة عن مصالح الثورة أو الشعب السوري، بل عن مصالح خاصة لتلك الكتل. الأمر ذاته يفعله النظام بألاعيبه بين إيران تارّة وروسيا تارّة، وحتى العلاقات المستجدّة مع الإمارات لن يجني منها كثيراً. وضمن ذلك لا معنى لاتهام كتلة سالم المسلط التي لم تنسحب بعد من اللجنة الدستورية أو لقاء أستانة، بأنها تنفذ الأوامر التركية، وتقترب أكثر فأكثر للاعتراف بالنظام، بما يخدم العلاقات الروسية التركية الإيرانية.