"الاختيار" أم "خبزٌ رَجُوع" مصري؟
يعرف بسطاء المصريين "الخبز الرَّجُوع"، أو الأرغفة التي توضع على طاولة خشبية مكسورة أو عفا الزمان عليها؛ تبقى تلك الأرغفة مكدّسة من دون انتظام، إذ إنها إما جاءت في بداية العجين قبل اختماره، أو احترقت قبل أن ينقذها الخباز من النيران الزائدة، أو انفلتت من العمود المخصص لإدخالها إلى الفرن فتكورت على بعضها. وتباع هذه النوعية من الخبز في النهاية بسعر أقل من السعر العادي، ولها زبائنها. وفي أوقات انفلات الظلم وانفجاره في بلد مركزي كمصر تتسع مساحة "الرَّجُوع"، فتنطلق من الخبز لتشمل حتى الفن والدراما، الرمضانية خصوصا؛ مع اختلاف بسيط، أن "الرجوع الفني المخابراتي" لا يراعي ضميرًا أو مهنية، فيقدم المسلسلات المعيبة المليئة بالعنف والإيحاءات والإيماءات واللقطات الجنسية الصريحة، أو "الكسر" بلغة السوق، على أنها الأفضل، بغرض تدمير بنية المجتمع وخلخلتها، وإفساد ذائقة الأجيال، بخاصة الشابة والمقبلة على الحياة أكثر. وكما أنه في الرجوع من الخبز يبقى الأسوأ الذي لا يقبل به مشترٍ، لاختلاطه بمواد سامة من مازوت ومخلفات الطاقة التي يعمل الفرن البدائي البلدي بها، فهناك دائمًا مسلسل أو أكثر، يعد "الماستر"، أو الأكثر سوءًا من بين كل الدراما الرمضانية، بخاصة بعد عام 2014. وحازها في العام الماضي مسلسل "الاختيار" في موسمه الأول، الذي انطلق من شهداء للجيش في أحد الكمائن، لتصوير أن المختلفين والمقاومين والمناوئين لنظام عبد الفتاح السيسي هم من "الإرهابيين" الراغبين في عدم استقرار الوطن أو ارتكازه أو عودته إلى لُحمته ونسيجه الاجتماعي.
جاء المسلسل ممعنًا في تدمير رؤية بعض المخلصين باستقرار مصر، بتجمع أطياف المجتمع كله على هدف واحد
مَثَّلَ المسلسل في موسمه الماضي محاولة مستميتة من صاحب المخبز البلدي الذي يحكم مصر لإقناع زبائنه ممن يعدّون بعشرات الملايين بأن أسوأ ما في "خبزه الرجوع" هو أفضل ما في الأسواق، ولا بديل عن قمحه غير الناضج وتفحمه ومازوته، لاستمرارهم على قيد الحياة؛ وإلا فإن البديل طرحه "الخائب" للفوضى والدماء اللذينِ لا وجود لهما سوى في خيال الحاكم المريض الذي يُملي على كاتب السيناريو والمخرج والقائمين على العمل، وكأنهم مجندون، لكن لإرهاب الوطن وتحجيمه وزجّه في الجحيم، بدلًا من البحث عن طريقٍ لإنقاذه من مصائب الانقسام والضعف والوهن والكوارث المتتالية، فضلًا عن تضاعف الديون التي تراكمت في عشرات السنوات، لتبلغ الضعف في آخر أربع سنوات.
ولم يكتف الحاكم وأتباعه بما تعانيه الكنانة، بل بدلا من بحثه عن حلٍّ لمعضلة السد الإثيوبي، الأسوأ والأكبر والمنذرة بعطش التربة والأراضي الزراعية وتشققها، وبدلًا من الانسحاب من اتفاقية 2015 التي فضل الجنرال فيها اعتراف إثيوبيا ودول أفريقية بشرعيته، على حساب الأجيال، وحياة شعب من المفترض أن يراعي أدنى قدر من الضمير فيه، على الأقل ليبقى رئيسًا له؛ وبدلًا من التركيز على خطر قلة نصيب مصر من النيل، والعمل على إخراج مسلسل درامي يليق بواحد من أطول أنهار العالم، يتناول تاريخه وجريانه بالخير في ربوع دول أفريقية، منها مصر، راح السيسي يغزل وينسج خبزه الفني الرجوع، فأعد العدة والتوجيهات للنسخة الثانية من "الاختيار"، وفيها يدخل على الخط مشاهير من فناني مصر، ممن يفضّلون ذهب السلطان على جميل سكنى قلوب عشرات الملايين من أهل مصر.
المسلسل رغبة شريرة، ونفثة شيطانية من منعدمي الضمير
في نسخة المسلسل الثانية ما يليق بخبز الرجوع الأكثر من فاسد، إذ ستبدو المذبحة في ميدان رابعة العدوية (صيف 2013)، من وجهة نظر النظام المزيفة، أن المستضعفين الذين حلموا بديمقراطية وحكم عادل ببلدهم تمنوا أكثر من اللازم، فطاب لهم حلم ازدهار بلدهم واستقراره ونهضته وبالتالي تقدمه. ولن يذكر المسلسل أن ذاك ما لم يكن ليرضاه بأي حال العدو الصهيوني، وبعض أعوانه من الخونة في طرف من دولاب الدولة. ولأن الدراما والفن انقلبا رأسًا على عقب، فقد جاء المسلسل ممعنًا في تدمير رؤية بعض المخلصين باستقرار مصر، بتجمع أطياف المجتمع كله على هدف واحد، اجتياز محنة مياه النيل المقبلة بقسوة ضارية، ليشغل النظام أعين الجميع بطرح رؤية الفتوة والبلطجي عن "رؤيته" الخاصة ببراءته من إجرامه وتلبس "الضحية" بالرغبة في الدفاع عن حقوقه!
هذا المسلسل رغبة شريرة، ونفثة شيطانية من منعدمي الضمير للإمعان في تدمير مصر، فلا يستحق مجرد المشاهدة، لأنه سيجيء كبيان سياسي خائب لتأييد الانحطاط، وشغل الآمال والأفهام عن الشرور المحدقة بالمخلصين الشرفاء، ثم لا تلبث الأيام المريرة أن تزول وترحل بلا عودة، فلا يلقى "الاختيار 2" بعد "الاختيار 1" إلا مزبلة التاريخ، ليُلقى فيها وصنّاعه وداعموه من الساسة، قبل فنانين مفترض أنهم يدافعون عن ضمير الأمة، فساهموا في تضييعها وتضييعه.