"التفاهمات" وتجلياتها
لا يمكن فصل التطورات الحاصلة على بعض الساحات العربية، وتحديداً تلك المرتبطة، بشكلٍ أو بآخر، بإيران، عن المفاوضات بين طهران وواشنطن، والحديث عن توصل الطرفين إلى تفاهماتٍ ثنائيةٍ خارج محادثات إحياء الاتفاق النووي الإيراني الجارية في فيينا، التي يبدو أن وصولها إلى "الخاتمة السعيدة" غير ممكن في ظل الظرف الروسي الغارق في الحرب الأوكرانية.
لم تمضِ ساعات على التسريبات الإيرانية والأميركية التي أشارت إلى توصل الولايات المتحدة وإيران إلى تفاهمات ثنائية خارج مفاوضات فيينا، حتى ظهر التحول الكبير وغير المتوقع على الساحة اليمنية مع تفويض الرئيس عبد ربه منصور هادي صلاحياته إلى "مجلس رئاسي"، هدفه إنهاء الحرب الدائرة هناك منذ سبع سنوات. هذا المجلس، الذي عكس بوضوح تقاسم الحصص السياسية على الساحة اليمنية بين السعودية والإمارات، بات اليوم الواجهة السياسية لما يُسمى "الشرعية اليمنية" بتفرّعاتها كافة التي ظهرت خلال السنوات الماضية، وبالتالي هو اليوم العنوان الرئيس لأي مبادرة تفاوضية هدفها إنهاء الحرب اليمنية، الأمر الذي لم يكن يمثله هادي سابقاً، وهو الذي كان مجرّد رئيس صوري ليس له أي صلاحيات على الأرض الموزعة بين الأطراف المتصارعة.
التحول اليمني الجديد، الذي سبقه إعلان هدنة من الحرب لشهرين متزامنة مع التقارب الأميركي الإيراني، ليس بعيداً عن "التفاهمات الثنائية" الأميركية الإيرانية، التي ينتظر أن تتضح تجلياتها في القريب العاجل. تجليات لن تكون مرتبطة فقط بفكّ تجميد الأموال الإيرانية في المصارف الخارجية أو السماح لطهران بنشاط نووي محدود أو رفع اسم الحرس الثوري الإيراني عن لائحة العقوبات الأميركية. فمن الواضح أن "التفاهمات" تأخذ أبعاداً أكبر وتتمدد نحو ملفات أخرى على صلة بطهران، أو لإيران مصالح فيها.
أيضاً ليس من باب المصادفة أن تترافق معلومات التفاهمات والتغيير الحاصل في اليمن مع الانفراجة في العلاقات الخليجية اللبنانية، وإعادة سفراء دول الخليج إلى بيروت، الذين جرى سحبهم في الظاهر بداية اعتراضاً على تصريحات لوزير الإعلام السابق، جورج قرداحي، خاصة بحرب اليمن، لكن ضمناً، كان القرار استنكاراً لسيطرة حزب الله وإيران على الساحة السياسية اللبنانية، وهو ما صرّح به أكثر من مسؤول سعودي. الواقع في لبنان، الذي أدّى إلى هذه المقاطعة الخليجية لبيروت، لم يتغير، فالسيطرة السياسية لحزب الله على حالها، بل ربما في طريقها إلى التوسّع، لكن يبدو أن هناك واقعاً آخر في طور التغير، لا تزال توجهاته مجهولة.
من الواضح أن إيران نجحت في استغلال الحرب الروسية على أوكرانيا والانغماس الغربي في محاولات عزل موسكو، والحاجة إلى تعويض النفط والغاز، لإبرام صفقة مع الغرب، أحد أهدافها تحييد إيران عن الحرب الأوكرانية، وفصلها عن "الحليف" الروسي، وهو الأمر الذي يبدو أن الولايات المتحدة تحديداً نجحت فيه إلى حد ما، لكن مقابل تقديمات واضحة لإيران. فحتى الآن، كل التسريبات والخطوات والانفراجات تصبّ في المصلحة الإيرانية، بداية من التسهيلات المالية التي ستقدّم لطهران، مروراً بتسوية الوضع اليمني، وصولاً إلى حل الأزمة اللبنانية مع دول الخليج. لكن يبقى سؤال "ماذا ستقدّم إيران في المقابل؟". وهو سؤال لا تزال إجاباته غير واضحة، أو على الأقل ستبقى مضمرة، بانتظار أن تنعكس عملياً في الملفات التي تتطلب تحرّكاً إيرانياً، سواء على الصعيد النووي الداخلي أو في الوضع اليمني أو في حالة حزب الله اللبنانية، وربما لاحقاً الوضع العراقي. لكن بغضّ النظر عن أي "تقديمات إيرانية"، يمكن القول إن طهران حتى الآن هي الرابح الوحيد من الحرب الأوكرانية.