"العدالة والتنمية" المغربي والمعادلة الصعبة
يجد "العدالة والتنمية"، الحزب الإسلامي المغربي الذي يقود الحكومة منذ عام 2011، نفسه أمام معادلة صعبة، وهو على مشارف الانتخابات التشريعية التي ستُجرى العام المقبل. تتمثل عناصر هذه المعادلة التي يتعذّر على الحزب حلها في إيجاد التوازن الذي يحافظ به على تصدّره الانتخابات المقبلة، وكسب ثقة القصر الذي لا يبادله الود نفسه، وإن كان في أمسّ الحاجة إليه، ولو مؤقتا، لضمان الاستقرار الهش الموجود في البلاد، والحصول على ثقة الناخبين، وفي الوقت نفسه، عدم إثارة مخاوف خصومه من قوته السياسية الانتخابية، والحفاظ على مصداقيته لدى أتباعه ومشايعيه، على الرغم من كل التنازلات التي يقدّمها من أجل الحفاظ كل ما سبق.
طوال السنوات التسع الماضية التي قضاها على رأس الحكومة، عرف "العدالة والتنمية" كيف يتعايش ببراغماتية مع هذا الوضع المعقد، محافظا على قاعدته الصلبة
يدرك الحزب الذي يقود الحكومة منذ ولايتين أنه يشتغل في وضعيةٍ صعبةٍ داخليا وإقليميا، فهو يترأس أغلبية غير منسجمة فرضت عليه من فوق، ويعي أن قوى داخل الدولة العميقة تسعى إلى إضعاف شعبيته وإزاحته من قيادة الحكومة، ويرى في نفسه التجربة الوحيدة ضمن تجارب الإسلام السياسي التي حملها "الربيع العربي" إلى السلطة، وما زالت على رأس حكومةٍ، حتى وإن كانت بدون سلطات حقيقية. وطوال السنوات التسع الماضية التي قضاها على رأس الحكومة، عرف "العدالة والتنمية" كيف يتعايش ببراغماتية مع هذا الوضع المعقد، محافظا على قاعدته الصلبة، ومتودّدا إلى القصر، طلبا لثقة مفقودة، ومتوافقا مع خصوم سياسيين يسعون إلى إطاحته في أول فرصةٍ تتاح لهم، وعلى رأس حكومةٍ يعرف أنها لا تحكم .. لذلك لا غرابة أن يفشل الحزب في الوفاء بكل وعوده التي قدّمها لناخبيه، لم ينفذ كل الإصلاحات التي وعد بها، ولم ينجح في محاربة الفساد الذي وضعه شعارا لآخر حملاته الانتخابية، ولم يرفع من مستوى معيشة الناس الفقراء الذين كان يعدهم بتحقيق العدالة الاجتماعية. وما حصل هو العكس تماما، فقد انتعش الفساد بشكل كبير طوال السنوات التسع الماضية في المغرب، وطاول أعضاء من "العدالة والتنمية" نفسه، وأبان قادة فيه، في أكثر من مناسبة، عن جشع كبير وتهافت مقيت على تبوؤ المناصب، والجمع بين التعويضات المادية الجزافية غير العادلة، والحصول على كل أنواع الريع الذي يخوله قانونٌ يدركون أنه غير عادل، وجاؤوا أصلا لإصلاحه من الداخل، ودُفعوا إلى اتخاذ قراراتٍ غير شعبية، نأت حكوماتٌ سابقةٌ، بلا سند شعبي، بنفسها عنها، أدّت إلى إفقار الفقراء واغتناء الأغنياء، وزادت في توسيع الهوة الطبقية بين فئات الشعب.
الهدف من القانون الجديد تحجيم فوز الحزب في الانتخابات المقبلة، لدفعه إلى التنحي عن رئاسة الحكومة بطريقة قانونية
سياق العودة إلى الحديث عن تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب هو النقاش السائد حاليا داخل الساحة السياسية المغربية بشأن انتخابات 2021، وخصوصا حول ما يعرف بـ "القاسم الانتخابي" الذي تسعى جهات داخل الدولة، مسنودةً بأحزاب تابعة لها، إلى تحديد احتسابه على أساس عدد المسجلين، وليس عدد المصوتين، وهو ما سيؤدّي، في حال تطبيقه، إلى تقليص عدد المقاعد المحصل عليها في كل دائرة انتخابية واحدة. ومعروفٌ أن "العدالة والتنمية" كان أكبر مستفيد من القانون الحالي في انتخابات 2016، وهو ما خوّل له آنذاك الحصول على معقدين، وأحيانا ثلاثة مقاعد، في دائرة واحدة، ما مكّنه من تصدّر نتائج تلك الانتخابات، وقيادة الحكومة ولاية ثانية، فالهدف من القانون الجديد تحجيم فوز الحزب في الانتخابات المقبلة، لدفعه إلى التنحي عن رئاسة الحكومة بطريقة قانونية، عندما يعجز عن تشكيل أغلبية منسجمة مستقبلا، حتى في حال تصدّره نتائج الانتخابات المقبلة، إذ سيجد الملك نفسه آنذاك أمام خياراتٍ أخرى، سبق أن لمّح لها لما أزاح زعيم الحزب السابق المثير للجدل، عبد الإله بنكيران، من رئاسة هذه الحكومة قبل أربع سنوات، عندما لم يتوافق معه. وسيجد القصر دائما التأويلات الدستورية المناسبة التي تسوّغ له أيا من الاختيارات التي سيُقدم عليها.
كان الحزب يدّعي أنه جاء إلى الحكومة لتغيير قواعد اللعبة من الداخل، وأصبح يدافع عن الحفاظ على القواعد نفسها
هذا النقاش الذي يُمكّن من قياس حرارة اللحظة الانتخابية المقبلة استلهمت أبعادَه بعض قيادات حزب العدالة والتنمية، ولمّحت إلى إمكانية تقليص حجم مشاركتها في الانتخابات المقبلة، حتى لا تجد نفسها مرة أخرى في تصادمٍ مع القوى التي لا تريد استمرار الحزب في تصدّر المشهد الانتخابي وقيادة الحكومة لولاية ثالثة متتالية. وأصحاب هذا الاتجاه داخل الحزب الذين يدافعون عنه، بدعوى انتزاع أي فتيل توتر مستقبلا مع الدولة العميقة، يكشفون أيضا عن نوع من البراغماتية السياسية الذكية، فجميع المراقبين في المغرب يجمعون على أن أكبر تحدٍّ تواجهه الانتخابات المقبلة سيكون نسبة المشاركة فيها التي يمكن أن تشهد عزوفا كبيرا وغير مسبوق للناخبين. واستباقا لما قد يلحق الحزب من خسارةٍ في عدد المقاعد المحصل عليها، يبرز اليوم هذا الاتجاه البراغماتي داخل الحزب الذي يدعو إلى التحجيم الذاتي كتنازل سياسي، لكنه، في الوقت نفسه، يروم إلى تحقيق أكثر من هدف، البقاء في السلطة، حتى وإنْ تخلى عن رئاسة الحكومة، وإرسال رسائل مطمئنة إلى خصومه والمتوجسين من هيمنته، والتغطية على أي فشلٍ انتخابيٍّ محتمل، في ظل تدني شعبيته التي تتآكل باستمرار، بفعل عامل الاستنزاف الطبيعي الذي يفرضه الاستمرار في السلطة مدة طويلة بدون تحقيق نتائج ملموسة.
ما لا يفهمه مراقبون كثيرون أن "العدالة والتنمية" حزب دوغمائي بامتياز، ينهج سياسة براغماتية صرفة. لا يتردّد في إصدار وعود كاذبة، أو رفع شعارات خادعة، إذا كانت ستجني له شعبيةً يدرك أنها زائفة. ويضع مصالحه، أو بالأحرى مصالح قادته وأعضائه، فوق كل اعتبار، ومستعد لتقديم كل التنازلات من أجل المحافظة عليها، فالحزب الذي كان يدّعي أنه جاء إلى الحكومة لتغيير قواعد اللعبة من الداخل أصبح اليوم هو نفسه من يدافع عن الحفاظ على القواعد نفسها، وينظّر لها، ويضرب المثل في الانضباط لها، ليثبت لمن ما زالت في نفسه ذرّة من شك بأنه الأصلح لخدمة مصالح الدولة العميقة. أما مصالح الشعب الذي اتخذه مطية لنيل مآربه، فيجب أن تنتظر إلى أجل غير مسمّى!