"العدل والإحسان" وقاعة الانتظار
أحيت جماعة العدل والإحسان، الإسلامية المعارضة في المغرب، أخيرا، الذكرى التاسعة لوفاة مؤسسها ومرشدها، عبد السلام ياسين، وهي ذكرى اعتادت الجماعة أن تحوّلها إلى مناسبة لتوجيه رسائلها إلى من يهمهم الأمر، على دأب ما كان يفعله مرشدها الذي اشتهر برسائله التي كان يعنونها بعبارة "إلى من يهمه الأمر"، في إشارةٍ إلى الملكين، محمد السادس وقبله والده الراحل الحسن الثاني. وعلى الرغم من أن رسائل الجماعة لم تختلف أبدا في مضمونها عن فكر مرشدها، إلا أن مستقبليها ينتظرونها مع حلول كل مناسبة لصدورها، لعلها تحمل بين طياتها جديدا بفعل اختلاف السياقات وتبدّل الأحوال والأشخاص والأزمان. ومناسبة هذا العام سبقتها أحداثٌ مهمة، شهدها المشهد السياسي المغربي، تمثلت في الهزيمة التي مني بها حزب العدالة والتنمية في انتخابات 8 سبتمبر/ أيلول الماضي، وشكّلت أكبر نكسةٍ لتجربة حزب إسلامي في تدبير الشأن العام في المغرب، وهو ما أعطى الجماعة ثقةً أكبر في النفس، وصدقية أكبر في معارضة نهج غريمها الإسلامي الذي راهن على "الإصلاح من الداخل"، وهي فكرة نقيض ما يقوم عليه فكر الجماعة التي ترفض الانغماس في اللعبة السياسية، في غياب ما تشترطه من ظروفٍ لتحقيق قبولها هذه المشاركة.
ما الذي حملته رسائل "العدل والإحسان" هذه السنة من جديد؟ يمكن الإجابة بسرعة، وقبل الدخول في التفاصيل، بأنها لم تأت بالجديد، فالجماعة ما زالت حبيسة مشروع مرشدها، على الرغم من تسع سنوات على وفاته. ومع مرور الوقت، يصبح هذا الفكر، عند أبناء الجماعة وأتباعها، متجمّدا لا يمكن إعادة النظر فيه ولا يقبل النقد. وعلى الرغم من أنه، كما قال الأمين العام الحالي للجماعة، محمد عبادي، "لا يزعم لنفسه الكمال والعصمة"، إلا أنه "يملك من مقوّمات النجاح ما ينافس به كل المشاريع". لذلك، التعامل الوحيد معه، المسموح به، هو "المدارسة والمناقشة والأخذ والرد والتعقيب والتصويب...".
المشروع الفكري لمؤسس الجماعة ومرشدها ما زال كما تركه صاحبه، يقترح نظاما سياسيا يقوم على الخلافة
والواقع أنّ المشروع الفكري لمؤسس الجماعة ومرشدها ما زال كما تركه صاحبه، يقترح نظاما سياسيا يقوم على الخلافة على منهاج النبوة استناداً للحديث النبوي "نبوة، خلافة، ملك عاض، حكم جبري وخلافة على منهاج النبوة". ومضمون هذا الفكر، كما ذكّرنا أمين عام الجماعة، "مشروع إنساني"، يحمل بين طياته خلاص الفرد والجماعة والأمة، وقادر على إنقاذ البلاد والعباد! وهو فكرٌ أقل ما يمكن أن يوصف به أنه "طوباوي"، بعيدٌ كل البعد عن مشروع الدولة الحديثة المدنية الديمقراطية. ولإقامة هذا المشروع، لا بدّ من أداةٍ لتغيير النظام السياسي الحالي الدي تصفه الجماعة بـ "الحكم الجبري"، ووسيلة التغيير عند الجماعة هي "تربية الإنسان" حتى يقوم بمهمة تغيير واقعه بتغيير نفسه أولاً. وليس خافياً أنّ هذا النمط من التفكير هو الذي كبّل قوة أكبر جماعة إسلامية في المغرب، ووضعها في حالة انتظار دائمة إذا لم تتأخّر فهي لا تتقدّم. ولا ييدو أنّ جوهر هذا الفكر تغير فهي، كما قال رئيس دائرتها السياسية، عبد الواحد متوكل، وهي بمثابة ذراعها السياسي، قبل أربعة أيام، ما زالت تسعى إلى إقامة "نظام الحكم العادل"، وبناء "مجتمع سليم معافى، تسوده القيم الإسلامية السامية البانية التي تحفظ للإنسان كرامته، وتحفظ شخصيته من التشظّي والتشييء والرداءة والإحباط، وتحفزه على العمل والإنتاج والبذل والعطاء، ورعاية الأخوة الإيمانية والرحم الإنسانية.."، هذا هو فكر الجماعة ومشروعها، لم يتغير ولم يتبدّل.
استطاعت الجماعة أن تحافظ على تماسكها التنظيمي، لكنّها فقدت كثيراً من زخم الحضور الإعلامي والسياسي
الرسالة الثانية التي حملتها الجماعة في الذكرى التاسعة لوفاة مؤسّسها ليست جديدة هي الأخرى، وتمثلت في انفتاحها على أصواتٍ يساريةٍ وعلمانيةٍ، دعتها إلى الندوة التي نظمتها بهذه المناسبة تحت عنوان يحمل دلالات سياسية كثيرة "المغرب وسؤال المشروع المجتمعي"، ناقش فيها المشاركون قضايا راهنية، تتعلق بالقيم والحكم والدولة والحكم والتنمية. وليست هذه هي المرّة الأولى التي تُبدي فيها الجماعة الإسلامية انفتاحا على تعبيراتٍ يساريةٍ وعلمانيةٍ داخل المجتمع، فمنذ تظاهرات عام 2011 تزامنا مع "الربيع العربي"، بدأ تقاربٌ بين الجماعة وبعض التيارات اليسارية تغلّب على الأحكام الأيديولوجية المسبقة، وتجاوز الانقسامات التي ساهم النظام في تعميقها لإضعاف خصومه من الإسلاميين واليساريين. وعكس ما شهدته بعض دول "الربيع العربي" التي ظهرت فيها توتراتٌ كبيرةٌ بين الإسلاميين واليساريين بعد نجاح ثورات شعوبها، فإن الحالة المغربية شكلت استثناء، خصوصا علاقة "العدل والإحسان" وحزب النهج الديمقراطي، اليساري الراديكالي، وبعض الأصوات اليسارية والعلمانية المستقلة، فقد استمر التعاون والتنسيق بينها، وهو ما جنّب ما يمكن وصفها بـ "المعارضة الراديكالية" الإسلامية واليسارية كل أشكال الاستقطاب التي يمارسها النظام لتفريق معارضيه لإضعافهم، فمعارضة النظام تحولت لدى هذه القوى إلى عقيدةٍ تجمعها وتقوّي تعاونها في ما بينها، وما يفسّر استمرار هذا التقارب عدم وجود مصالح انتخابية يتنافس عليها الطرفان. ولكن إلى أي حد يمكن أن يصمد مثل هذا التحالف الذي يتناقض مع الطبيعة ومع إيديولوجية كل طرف؟ هذا هو السؤال الذي تصعب الإجابة عنه حاليا.
تسعة أعوام مضت ولا جديد، استطاعت فيها الجماعة أن تحافظ على تماسكها التنظيمي، لكنها فقدت كثيرا من زخم الحضور الإعلامي والسياسي، بل وحتى الميداني الذي كانت تتمتع به في السابق، وما زالت تفتقد إلى الأخذ بزمام المبادرة، تنتظر الفرص لاستثمارها ولا تبادر إلى صنعها أو تحفيزها. والحال أنّ الفرصة اليوم كبيرةٌ أمام "العدل والإحسان" بعد فشل غريمها "العدالة والتنمية". وأمام الفراغ الكبير الذي تشهده الساحة الحزبية المغربية للتقدّم بعرض سياسي واقعي ومقنع، لكن فكرها المتجمّد يكبلها ويجعلها حبيسة مشروع "طوباوي" متجاوز، بل وخارج الزمان الذي نعيشه، وهو ما سيجعلها تستمرّ في حالة الانتظار التي أدمنت عليها، خصوصا إذا كانت قاعة الانتظار مريحة ومكيفة، فالجماعة تعي أن موازين القوى ليست في صالحها، وتدرك صعوبة بل واستحالة التغيير من الداخل. لذلك تفضل المكوث في حالة الانتظار، حتى بات الانتظار بالنسبة لها عقيدة وأيديولوجية، وتبرّر به وجودها واستمرارها، ولا يهمها أن تُضيِّع ما قد يكون ممكناً في انتظار ما يبدو مستحيلاً.