"الواحد منا يقابل مية"
لله درّكم يا عرب، ترابا بين أيديكم ينقلب الذهب، تراودني هذه العبارة كلما تناهى إلى سمعي شعارٌ رفعه العرب يوما ما. وبطبيعة الحال، كان شعار الوحدة أكثر الشعارات الرنانة من بين الشعارات التي سمعتها، رفعته دولتان عربيتان جارتان شبيهتان في الظروف إلى درجةٍ تكاد تبلغ حد التطابق، وتتشاركان في حدود طويلة تدعم الوحدة بينهما في حال حصولها، ولكن هذه الوحدة ليس فقط لم تتحقق، وإنما تحولت الدولتان إلى عدوتين، بلغت درجة العداوة بينهما مستوى العداء مع إسرائيل، فكنت ترى في جواز السفر السوري على سبيل المثال عبارة "يسمح له بزيارة كل دول العالم ما عدا العراق وإسرائيل". ولا أدري إن كان جواز السفر العراقي يحتوي على شيء مشابه. ولكن حتى لو لم يكن كذلك، فإن أي علاقة مع السلطة السورية كانت تعدّ بمثابة خيانة عظمى. أما عن الحرية التي رفعها الحزبان الحاكمان في كلتا الدولتين، واللذان يحملان الاسم نفسه، كشعار من الشعارات الأساسية التي يتبنّيانها، فقد تحوّل بعده نظاما البلدين إلى أعتى ديكتاتوريتين في المنطقة. وبالطبع، لا أستثني هنا بقية الأنظمة التي رفعت الشعار نفسه، والتي لم تكن تقل استبدادا عنهما. أما شعار الاشتراكية الذي رفع في دول كثيرة أيضا، فإنه يجعل الاشتراكية من قبرها تصيح: خلّصوا بدني من هذا الفساد، فليس هناك سفالة ووقاحة تفوق سفالة سارق المال العام ووقاحته عندما يتحدّث عن الاشتراكية أو العدالة أو ما شابه من الشعارات.
بشكل عام، يمكن القول إنه لم يصل إلى أيدي العرب شعارٌ لم يتم تسخيفه وتقزيمه إلى أدنى درجة يمكن التقزيم فيها. .. ما دفعني إلى الحديث في هذا الموضوع أهزوجة تقول كلماتها: "وان هلهلتي هلهلنالك حطينا البارود قبالك.. وان هلهلت يا عروبية الواحد منا يقابل مية ..". هذه الهمروجة التي تعتبر من همروجات مديح الذات التي يُعرب منشدوها فيها عن استعدادهم للاستبسال في حال هلهلت "العروبية"، أو المرأة التي قد يكون لها انتماء قُطري في بعض الحالات، حين يقول المنشدون على سبيل المثال "وان هلهلتي يا سورية أو يا عراقية أو يا أردنية"، أو غير ذلك من الأقطار "الواحد منا يقابل مية" ليست سوى مبالغاتٍ لا تصلح لأكثر من روايتها بوصفها نكتة تثير الضحك، وربما البكاء في بعض الحالات، فالـ"عروبية تهلهل منذ زمن بعيد"، ولكن لا يأتيها غير جواب واحد "لا تندهي ما في حدا".
صدحت هذه الأهازيج من الإذاعة بقوة في أثناء حرب حزيران/ يونيو 1967، حيث كانت تصدح من المذياع بالتناوب مع عدة أغنيات ماتت بعد الحرب، مثل "عبيلي الجعبة خرطوش/ وناولني هالبارودة/ بيكلفني خمس قروش البيقرب صوب حدودي" و"أنت منذ اليوم لي يا وطني". وهذه الأغاني التي اختفت بعد الهزيمة، ومن الصعب العثور عليها الآن، حتى في فضاء الإنترنت، ربما خجلا من الجماهير التي سمعتها وقت الهزيمة. ولكن هل هناك بيننا بالفعل من يمكن أن نطلق عليه "واحد يقابل مئة"؟
في الإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول، بكل ثقة، إن مثل هذا الشخص كان موجودا دائما، وفي كل المراحل، ولكنه لم يقل ذلك عن نفسه أبدا، فالذين كانوا يطلقون على أنفسهم هذه الصفة، على الأغلب لم تكن لهم قيمة قشرة البصلة موقفا وسلوكا. لا بل كان سلوكهم على الغالب يشير، بما لا يدع مجالا للشك، إلى أن الواحد منهم لم يكن يساوي أكثر من ربع أو نصف رجل. أما الـ"واحد" الذي يقابل مائة فعلا فهو، بدون تردّد، قائل كلمة الحق عند السلطان الجائر. هذا لا يساوي مائة فقط، هذا يقابل مسيرة مليونية بأسرها، خرجت في تأييد ذلك السلطان الجائر.