"خمسون نكبة"
أثار تصريح الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في برلين، أخيراً، عن ارتكاب إسرائيل "خمسين مجزرة تعني خمسين هولوكوست" بحق الفلسطينيين موجة من التصريحات المندّدة والغاضبة، بدعوى أنّ تجرؤ عباس في تشبيهه ما حدث للفلسطينيين بالمحرقة النازية في اليهود، مسّ بخصوصيتها. وصدرت التصريحات الغاضبة من المستشار الألماني أولاف شولتز وسابقته أنجيلا ميركل وأحزاب وشخصيات ألمانية. وأصدر الرئيس الفلسطيني توضيحاً لاحقاً يعيد فيه التأكيد على أن الهولوكوست "أبشع الجرائم التي حدثت في تاريخ البشرية الحديث"، وأنه "لم يكن المقصود في إجابته إنكار خصوصية الهولوكوست، التي ارتكبت في القرن الماضي، فهو مدان بأشد العبارات"، لكنّ شرطة برلين فتحت تحقيقاً خاصّاً ضده للاشتباه بـ"تخفيفه من شأن محرقة اليهود".
ترفض القيادات الألمانية، على اختلاف أطيافها، اعتبار ما حدث للفلسطينيين "هولوكوست"، ثم تصمت عن القول لنا ماذا تسمّيه: مأساة، جريمة، تطهير عرقي، أم ماذا؟ هل هي على الاستعداد للاعتراف بأنّ ما حصل للفلسطينيين نكبة، وتدينها، وتحتدّ عندما ينكرها أحد أو يقلل من شأنها أو يمسّ خصوصيتها؟ المعايير الغربية المزدوجة في التعامل مع حقوق الإنسان، التي تنصّب نفسها مدافعاً شرساً عنها وحامي حماها، وفي إنكار معاناة الضحية، مثيرة للاشمئزاز والتقزز الذي يقرّ قولاً وعملاً بأن هناك ضحية تُحترم ويُعترف بمأساتها، ويَمنع بالقانون مجرّد البحث في حيثيات ما حدث لها، وفي الوقت نفسه، يصمت ويدير وجهه لمعاناة ضحية أخرى بدأت منذ عام 1947 ولم تتوقف. وعندما تذهب الضحية الأخرى إلى المحكمة الجنائية الدولية سالكة طريق القانون الدولي لوقف معاناتها تحتجّ المستشارية الألمانية التي أثار حفيظتها تصريح عباس لدى المحكمة الدولية، وتطالب بوقف التحقيق، وتهدد بقطع الدعم المالي عنها. تقبل هذه المستشارية التوظيف السياسي لمأساة الهولوكوست، وابتزاز العالم الغربي نفسه بسببها، حتى بعد أكثر من 70 عاماً عليها، ولكنها ترفض حتى مجرد الاعتراف بكينونة سياسية للضحية الأخرى، دولة على حدود 5 يونيو/ حزيران 1967.
عوضاً عن كسب الجمهور الألماني لصالح قضيته، قدّم عبّاس مادة دعائية مجانية للوبي الإسرائيلي
حقوق الإنسان والدفاع عن الضحية ورفع الظلم عنها لا تتجزأ، يا مستشارية، سواء كان ذلك هولوكوست في ألمانيا، أو إبادة جماعية في رواندا والبوسنة، أو نكبة في فلسطين. قتل النفس البشرية بغيض ومدان، بغض النظر عن المكان والزمان والعدد. الكيل بمكيالين يدين الفاعل نفسه، وليس الضحية. تعاني ألمانيا من عقدة ذنب جماعي تجاه الهولوكوست، وهذا مفهوم وفي مكانه لبشاعة ما حدث على أرضها، وما فتئت تقوم بكل ما تستطيع للتخلص من هذا الذنب. لكنّ الحكومة الألمانية، في الوقت نفسه، لا تدرك (أو ربما تدرك) أنّها اليوم تساهم بصمتها عن النكبة وعدم الاعتراف بها ومقاومة التحقيق في تفاصيلها في المحاكم الدولية أنّها ترتكب ذنباً من نوع جديد، يجعلها على الجانب الخطأ من التاريخ.
لقد أخطأ الرئيس عباس بوصفه نكبة الفلسطينيين بالهولوكوست، فللمأساتان ظروفهما ومجرياتهما المختلفة. كان أجدر به أن يقول إن خمسين نكبة حدثت للفلسطينيين، فالمحرقة تختلف عن النكبة في عدة أوجه، منها أن الأولى حدثت وانتهت في غضون ست سنوات، بينما الثانية مستمرة منذ عام 1947، فهي عملياً خمسون، بل سبعون نكبة وتزيد. اعترف العالم بمأساة الأولى وببشاعتها وسنّ القوانين لمحاكمة منكريها أو المقللين من شأنها وأعداد ضحاياها، والباحثين في حيثياتها، بينما ترفض الحكومة الألمانية ومثيلاتها، حتى مجرد الاعتراف بوجود النكبة الثانية التي ألحقها قيام دولة إسرائيل بالفلسطينيين.
لقد فوّت الرئيس عباس فرصة عند إجابته عن سؤال لصحفي ألماني (عما إذا كان سيعتذر عن عملية ميونخ في 1972)، بتقديم معاناة الشعب الفلسطيني كما هي "نكبة" مستمرة، والسكوت عنها يجعل من الآخرين متواطئين بالجريمة، لا أن يخلط الحابل بالنابل. وعوضاً عن كسب الجمهور الألماني لصالح قضيته، قدّم مادة دعائية مجانية للوبي الإسرائيلي، يستقطب فيها حتى المحايدين والمراقبين للمشهد السياسي في فلسطين، ما يثير تساؤلات بشأن قدرة الرئيس على تقديم تمثيل حقيقي لنكبة الفلسطينيين المستمرّة.
على الفلسطينيين ومعهم شعوب كثيرة، وشعوب الغرب نفسه، النضال معاً لإدانة منكري النكبة والمقللين من شأنها
ولكن من المهم للفلسطينيين استخلاص الدروس مما جرى للرئيس عبّاس في برلين، وتقديم مأساتهم للعالم نكبة مستمرة، وليس هولوكوست، ولها تعريفها الخاص بها في قاموس كامبريدج، تماماً كما نجح الفلسطينيون بتقديم مصطلح "انتفاضة" عام 1987 للغة الإنكليزية. عليهم النضال للاعتراف بنكبتهم (وليس بهولوكوستهم) كما هي، بمرارتها وظروفها وآلياتها التي أدّت إليها وما زالت تشغلها، وبنتائجها التي اضطهدت شعباً بأكمله، وشرّدت نصف سكانه وهدمت بيوته، وقتلت جزءاً من شبابه، وألقت جزأه الآخر في السجون من دون رأفة. على الفلسطينيين ومعهم شعوب كثيرة، وشعوب الغرب نفسه، النضال معاً لإدانة منكري النكبة والمقللين من شأنها. عليهم النضال للاعتراف بخصوصيتها، حيث لم يتعرّض أي من الشعوب التي عانت من حركة الاستعمار العالمي لما عاناه، وما تعرّض له شعب النكبة خصوصاً بطرد نصف سكانه، وعدم الاعتراف بحقّهم في العودة إلى الديار التي جرى تهجيرهم منها. كلٌّ عانى، ولكلّ خصوصيته.
كان من الأجدر بالمستشارية الألمانية تقديم تعريف مغاير لما قدّمه عبّاس، لا أن ينتابها الصمت والتيه في ظلمات وبشاعة المعايير المزدوجة التي تفرّق بين الضحية والضحية وبين حقوق إنسان ينتمي لـ"العالم المتحضر" وإنسان ينتمي لعالم آخر أقل شأناً ودونية، فإذا كان الرئيس عبّاس قد قلّل من شأن الهولوكوست (وهذا لم يحدُث)، فالساسة الألمان مدانون بإنكار النكبة والتقليل من شأنها والمساس بخصوصيتها.