"فيتنام بايدن" .. فشل أخلاقي متكرّر
نفى الرئيس الأميركي، جو بايدن، في 5 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، أن يكون هناك أي وجه شبه بين انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، وخروجها من فيتنام، مؤكّدا أن مشهد إجلاء الناس وانتشالهم من على سطح السفارة الأميركية في فيتنام الجنوبية لن يتكرّر. وقد تزامن الانسحاب الأميركي مع مكاسب كبيرة على الأرض لحركة طالبان التي تقدمت لتسيطر على عشرات من المدن الرئيسية، مع مقاومة قليلة أو معدومة من القوات الحكومية، وصولا إلى القصر الرئاسي في كابول الذي فر منه الرئيس الأفغاني، أشرف غني، إلى خارج البلاد. وقبل أيام قليلة من سقوط وشيك للعاصمة كابول، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية (يوم الخميس الماضي) أن واشنطن سترسل جنودا إلى العاصمة الأفغانية لإخلاء موظفي السفارة الأميركية هناك، بالإضافة إلى ترتيب رحلات جوية منتظمة بهدف إجلاء الحلفاء الأفغان. على الرغم من نفي بايدن، أكدت التطورات الأخيرة أوجه شبه بارزة بين لحظتي أفغانستان وفيتنام، وقد تساءل مايكل هيرش ("فورين بوليسي"، 9 تموز/ يوليو 2021)، عقب أيام قليلة من مؤتمر بايدن المذكور، ما إذا كانت فيتنام سوف تطارد بايدن، واعتَقَد محقًا أن الرئيس قد تسرّع عندما استبعد تلك المقارنة.
لقي الانسحاب الأميركي من أفغانستان اعتراضات مسؤولين أميركيين، سابقين وحاليين. يعتقد الأمنيون والعسكريون منهم أنه بعد الانسحاب ستتضاءل القدرة على جمع البيانات الاستخباراتية عن تهديدات محتملة انطلاقا من الأراضي الأفغانية، والتصرّف بشأنها. أما السياسيون، ومنهم نواب ديمقراطيون، فيعتقدون أن الانسحاب هو خيانة للحكومة المنتخبة ديمقراطيا، على الرغم من كل مساوئها، وأنه كما همّشت إدارة ريتشارد نيكسون الحكومة الفيتنامية الجنوبية، في اتفاقيات باريس في سبعينيات القرن الماضي، كذلك تفعل إدارة بايدن مع حكومة أشرف غني في كابول. أما الجمهوريون فيتمسّكون بـ"فيتنام بايدن" شعارا يأملون ديمومته، لكسب الانتخابات الرئاسية المقبلة، بينما يتمنّى بايدن أن تختفي أفغانستان من عناوين الأخبار الرئيسية بحلول انتخابات 2024.
يبدو انسحاب بايدن من أفغانستان فعلا صائبا بوصفه أفضل الحلول العملية المتاحة، على الأقل، بالنسبة لأنصار الانسحاب العسكري
غالبية الأميركيين، وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، يؤيدون الانسحاب، ولا يختلف بايدن عن سلفه ترامب في مبدأ سحب جميع القوات الأميركية من أفغانستان، فليس لديه أي خيار جيد بديل بشأن أفغانستان. وبانسحابه غير المشروط، يسعى للتخلص من إرث صفقة "سيئة" أبرمها سلفه مع حركة طالبان، معلنا أن الحرب انتهت بتدمير تنظيم القاعدة والتخلص من أسامة بن لادن، وأن التدخل الأميركي في أفغانستان لم يكن غايته يوما بناء هذا البلد، والمسألة لم تعد أميركية بل أفغانية. منذ توقيع الاتفاق بين حركة طالبان والولايات المتحدة (في الدوحة، 29 فبراير/ شباط 2020) لم تتخذ الولايات المتحدة خطواتٍ جدّية لتنفيذ بنود الاتفاق، وإحلال السلام في البلاد، ولم تترك أثرا يذكر على مستوى تدريب الجيش الأفغاني وتجهيزه، وأظهرت التطورات الأخيرة هشاشة هذه التجهيزات.
براغماتياً، يبدو انسحاب بايدن فعلا صائبا بوصفه أفضل الحلول العملية المتاحة، على الأقل، بالنسبة لأنصار الانسحاب العسكري. أخلاقياً، تبدو الانتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان بعد الانسحاب الأميركي مسؤولية أميركية. لكن الأمر لا يتعلق بسوء حظ أخلاقي ناجم عن أن الولايات المتحدة قوة عظمى، عليها القيام بمسؤولياتها العالمية، ما يخوّلها امتلاك سلطة على الآخرين، بل نحن بصدد فشل أخلاقي أميركي كامل، حدث في فيتنام ويتكرر اليوم في أفغانستان. لقد تم سحب غالبية القوات الأميركية المتبقية في أفغانستان، ومن المقرّر مغادرة البقية بحلول نهاية الشهر الحالي (أغسطس/ آب)، ما ينهي 20 عاما من الوجود الأميركي في أفغانستان، كانت عناوينها الأبرز: انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، جرائم حرب، وصراع أججته الرغبة في الانتقام، والاستقطاب الاجتماعي والسياسي الحادّ، ومعوقات الحوار السياسي. انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات الأفغانية والجيش الأميركي منذ العام 2001 كانت سببا مهما لعودة "طالبان".
حين يدّعي الجيش الأميركي فتح تحقيقٍ في ضرباتٍ يصفها بأنها حدثت بطريق الخطأ طاولت مدنيين
على الرغم من فسادهم وسجلاتهم الحافلة بانتهاكات حقوق الإنسان، رأت الولايات المتحدة في أمراء الحرب الأفغان، وقادة المليشيات الأفغانية المسلحة، حلفاء مناسبين لإطاحة "طالبان"، ولتوفير الأمن والاستقرار، وبرهنت الأحداث اللاحقة أن هؤلاء أنفسهم كانوا سببا لانعدام الأمن والاستقرار، قوّض فسادُهم وممارساتهم غير الأخلاقية أي أمل في بناء دولة مستقرة، بل ساعدوا "طالبان" على التمدّد واكتسابها شعبية وتأييدا متزايدين. عبد الرشيد دستم، النائب السابق للرئيس الأفغاني (دخلت مسقط رأسه في شبرغان عاصمة ولاية جوزجان وسيطرت على قصره)، غول آغا شيرازي، حاكم ولاية ننكرهار الشرقية، الجنرال عبد الرازق قائد شرطة قندهار (اغتالته "طالبان" العام 2018)، أسد الله خالد، وزير الدفاع المُقال حديثا، وغيرهم، متهمون بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في طول أفغانستان وعرضها، منذ العام 2001؛ اغتصاب النساء، حالات الإخفاء القسري، تدمير القرى ونهبها، الاستيلاء على الأراضي، تعذيب المعتقلين حتى الموت، وتدمير المقابر، ونحوها. وحين عرضت فلول "طالبان"، العام 2002، على الرئيس الجديد في حينه، حامد كرزاي، إلقاء السلاح والاعتراف بالحكومة، فضّل الزعيم القبلي، آغا شيرازي، التنكيل بهم. حصل ذلك كله بمعرفة جنرالات الجيش الأميركي (وجنرالات حلف الناتو)، الذين لم يروا في حقوق الإنسان، في أفغانستان، وقبلها في فيتنام، أرضيةً لمعالجة المشكلات، بل عقبة في طريق تكتيكاتهم العسكرية. الضربات الجوية الأميركية لم تفرّق بين عسكريين ومدنيين. وحين يدّعي الجيش الأميركي فتح تحقيقٍ في ضرباتٍ يصفها بأنها حدثت بطريق الخطأ طاولت مدنيين، فغالبا لا يعرض نتائج التحقيق كاملة بحججٍ أمنية. وبعد إلغاء الحظر على استهداف المباني السكنية ومنشآت أخرى، في عهد ترامب، كانت الضربات الجوية هي الأسوأ، وارتفعت نسبة الإصابة بين المدنيين، لتتراوح ما بين 40% و45%. وفي أواسط العام 2019، فاقت الخسائر بين المدنيين التي تسببت فيها القوات الحكومية الأفغانية والضربات الجوية الأميركية تلك التي تسببت فيها "طالبان" و"داعش". أما المحكمة الجنائية الدولية التي أرادت التحقيق في انتهاكات أطراف النزاع المختلفة لحقوق الإنسان، فعارضتها واشنطن، بحجّة عدم الاختصاص.
اعتمدت طالبان، منذ ظهورها، على ولاء العرقية البشتونية، لكنها تحلّت بمرونةٍ مكّنتها من إدخال تغيراتٍ مستمرّةٍ على بنيتها التنظيمية
ذلك وغيره، أدّى إلى استياء واسع، وعدم الثقة في الحكومة الأفغانية وراعيها الأميركي، وشلّ القدرات العسكرية والسياسية للحكومة الأفغانية، وسهّل على "طالبان" تحقيق نصرها المشتهى. كثيرون ممن نجوا من الموت والمعتقلات الحكومية، التحقوا بـ"طالبان"، وقاد بعضهم الحركة التي استجمعت قواها، وتقدّمت للانتقام منذ العام 2005، لتمارس فظاعاتها الخاصة. منذ ظهورها، اعتمدت الحركة على ولاء العرقية البشتونية، لكنها تحلّت بمرونةٍ مكّنتها من إدخال تغيراتٍ مستمرّةٍ على بنيتها التنظيمية، وعلى طرائقها في التحشيد والتجنيد، وسوّقت نفسها مظلة وطنية لجميع الأفغان، حين احتضنت في صفوفها غير البشتون من أوزبك، وطاجيك، وتركمان، مستغلةً الانقسامات، وضعف الثقة في حكومة كابول، لكسب زعماء القبائل المهمّشة الراغبين في الاحتماء بالحركة. قادتها براغماتيتها إلى إدراك أن انسحابها من عملية السلام يعني خسارة الاعتراف الدولي بها، وتمكّن مفاوضوها بحنكةٍ من انتزاع اتفاق العام الماضي. وتقدّمت بعد استراحة شتوية للسيطرة مجدّدا على أفغانستان، وفرض شروطها العسكرية والسياسية. لم تتعلم الولايات المتحدة من دروس التاريخ، فكرّرت فشلها الأخلاقي في أفغانستان بعد فيتنام، وفي أماكن أخرى. قد يفسّر ذلك تكتيكاتها الناجحة واستراتيجياتها الفاشلة.