"مواطنون ضدّ الانقلاب" في تونس .. الإمكان وحدوده
أحيت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" في تونس الأمل في مغالبة الانقلاب، لإسقاطه أو منعه من تطبيق برنامجه كما يخطّط على الأقلّ. واستطاعت أن "تتجاوز" تناقضاتها الداخليّة، وتخرج من حالة العجز إلى المعارضة الفعليّة، فحرّكت جمهوراً متعدّد الاتجاهات الفكريّة والسياسيّة، وقادت تحرّكات سياسيّة (وقفات، مسيرات، ندوات صحافيّة)، جديدها أخيراً اعتصام المضربين عن الطعام، وما جرى في مقرّه من نقاش سياسي، لمحاولة صياغة تصوّر مشترك لمواجهة الانقلاب. ويقال إنّ أشكالاً أخرى من معارضة الانقلاب ستنظّم في الجهات قريباً.
ووضعت المبادرة سقفاً للإضراب، هو "إنجازُ الالتئام السياسيّ الوطنيّ من أجل بديل ديمقراطي وطنيّ بعد سقوط الانقلاب، وارتقاءُ المجتمع المدنيّ إلى مستوى الدفاع عن الديمقراطية والحريّة"، كما قال العضو البارز في "مواطنون ضدّ الانقلاب"، الحبيب بوعجيلة. وأهمّ غايتين يطمح إليهما الإضراب الآن: "توحيدُ الحركة الديمقراطيّة على مقاومة الانقلاب وكذلك على إعداد البديل السياسيّ للحكم بعد سقوط الانقلاب"، و"إعادةُ بناء المجتمع المدنيّ الذي اندثر كلُّ ما استُثمر فيه ليكون مدافعاً عن الحقوق والحريّات".
"مواطنون ضدّ الانقلاب" لا يملكون القدرة الفعليّة على قيادة الشارع الديمقراطيّ. وإنّما هم واقعون بين قوّتين
حراك "مواطنون ضدّ الانقلاب" إنجاز حقيقيّ بعد البَهْتة التي أخذت المواطنين منذ 25 يوليو/ تموز (2021)، إلّا أنّ المبادرة لا تملك قوّة مادّيّة ولا رمزيّة تواجه الانقلاب، فـ"المبادرة الديمقراطيّة" لم تصر بعدُ مشروعاً جامعاً يتّفق عليه التونسيّون، و"مواطنون ضدّ الانقلاب" لا يملكون القدرة الفعليّة على قيادة الشارع الديمقراطيّ. وإنّما هم واقعون بين قوّتين: الانقلاب الذي لا يستثني أحداً ولا شيئاً من التجربة الديمقراطيّة، ويريد أن يمسح الطاولة مسحاً تامّاً، وتساعده على ذلك القوّةُ الصلبة والإدارةُ والدولة العميقة داخليّا، والجهات الخارجيّةُ المؤيّدة له؛ والقوّة الثانية المنتظم الحزبيّ التقليديّ الذي "تطوّع" بقاعدةٍ شعبيّةٍ لملء الشارع في المسيرات، و"تطوّع" بوجوه معروفة للمشاركة في إضراب الجوع، وبزيارات تأييد للمضربين. لكنّ "المتطوّعين" للتظاهر وللإضراب يرجعون، في موقفهم النهائيّ، إلى أحزابهم لا إلى المبادرة، فهم شعب الأحزاب لا أنصار المبادرة. ويمكن القول إنّ منطق الأشياء يقتضي أن يبيّت المنتظم الحزبيّ التقليديّ نيّة ضرب الانقلاب بالمبادرة ليعود إلى الحكم/ العمل السياسيّ التقليدي، فدورُه الآن مساعدةُ المبادرة على إنهاك الانقلاب، لا تقديمها لقيادة الحراك وتأسيس الجديد.
ويضاف إلى هذا أنّ الاقتناع بفلسفة المبادرة عند أصحابها أنفسهم قد لا يكون عميقا جدّا إلى درجة القدرة على صياغة خطاب جديد وإقناع التونسيّين به. وممّا يقوّي هذا الشكَّ كلامُ الحبيب بوعجيلة عن اختلاف المضربين عن الطعام والمشاركين في المبادرة اختلافاً جذريّاً في أمور كثيرة. فالوقوف في دائرة الاختلاف الجذريّ يعني أنّ المبادرة كلّها لم تبلور خطاباً جديداً جامعاً يُقنع/ يتجاوز المنتظم الحزبيّ التقليديّ، وإنّما بلورت موقفاً اقتضته مغالبة الانقلاب. وهو موقف واحد في مواجهة الانقلاب، لكنّه مواقف متعدّدة/ مختلفة/ متنافية في تقييم عشريّة الحكم، وتحميل المسؤوليّات، وتصوّر الحلول.
ترى حركة النهضة أن الأحزاب كلّها مسؤولة، وعليها أن تنقد نفسها ويتحمّل كلّ حزبٍ منها مسؤوليّته على قدر حجمه ومشاركته
ويوضّح النقاشُ الذي دار في مقرّ إضراب الجوع حدودَ "المبادرة الديمقراطيّة"، فمن أهمّ نقاطه أنّ الاتّفاق على المشترك الديمقراطيّ يقتضي نقد التجربة الديمقراطيّة منذ 2011، وينبغي أن يسبقه نقد ذاتيّ يعترف فيه كلّ حزبٍ بأخطائه. وهنا يقع الاختلاف بين رأيين على الأقلّ: يقول أوّلهما إنّ أخطاء الحكم بعد الثورة تتحمّلها حركة النهضة وحدها، ويسكت عن الأطراف الأخرى، ومنها النقابات، والدولة العميقة، ولوبيّات المال، والأحزاب الفاشيّة، والمطلبيّة الشديدة المدعومة من الأحزاب. ويُنقل عن بعض القيادات الحزبيّة المعبّرة عن هذا الرأي قولُها: "لا أريد أن يذهب حصادي إلى بيدر النهضة". والرأيُ الثاني موقفُ "النهضة" التي ترى أنّ الأحزاب كلّها مسؤولة، وعليها أن تنقد نفسها ويتحمّل كلّ حزبٍ منها مسؤوليّته على قدر حجمه ومشاركته. ويرى أنصارها أنّ وزنهم في الشارع الديمقراطيّ ينبغي أن يضمن حقّهم في أن يكون لهم ممثّلون في قيادة التحالف الحزبيّ الذي يُراد تأسيسه، إذ لا يعقل عندهم أن يخوضوا صراع مواجهة الانقلاب ثمّ يُقْصَوْن، فتستفيد من نضالهم الأحزاب والنقابات التي لم ترفض الانقلاب، بل عبّرت عن رفض بعض سياسات قيس سعيّد وأفكاره.
المبادرة لم تهيّئ، إلى اللحظة، أفقاً من نشاطها الخاصّ، ولا من المنتظم الحزبيّ التقليديّ، ولا من التأييد الخارجيّ للتجربة الديمقراطيّة
وخلاصة هذا المشهد المركّب أنّ مغالبة الانقلاب مواقفُ لا موقفٌ، وفيها قيادةٌ نشيطةٌ بلا قاعدة شعبيّة، وأنّ المنتظم الحزبيّ ما زال يفكّر في مواجهة الانقلاب بعقليّة الصراع الحزبيّ وفي دائرة حساب المكاسب الصغيرة، لا في دائرة الدفاع عن المشترك الديمقراطيّ المهدّد. والأصوات المخالفة التي ارتفعت في بعض الأحزاب بعيْد الانقلاب، خفتت، ولم تتحوّل إلى إمكانات انشقاقٍ مؤسِّس، ولم توجد بعدُ في المبادرة القيادةُ القادرة على استيعابها. وأمّا اتّحادُ الشغل فلم يحسم موقفه بعدُ، وقد قال بوعجيلة، في شرح موقف الاتّحاد، إنّه "سيتابع ديناميكيّة مواجهة الانقلاب، وسنجده في اللحظة المناسبة في المكان الصحيح". لكن، من يوصل البلاد إلى اللحظة المناسبة؟ لا أحد إلّا المستعدّون للقفز في فم القرش من عموم القواعد الشعبيّة إذا حرّكتها أحزابها.
لهذا يمكن القول إنّ المبادرة لم تهيّئ، إلى اللحظة، أفقاً من نشاطها الخاصّ، ولا من المنتظم الحزبيّ التقليديّ، ولا من التأييد الخارجيّ للتجربة الديمقراطيّة. وهي بتقييم إيجابيّ تضحيةٌ من أجل الحرّيّة والديمقراطيّة، تضاف إلى تضحيات سابقة؛ وهي أيضا حراكٌ سياسيّ ضروريّ في طريق تجديد العقل السياسيّ التونسيّ ومراكمة الفكر الديمقراطيّ. وهي، بتقييم سلبي، استحثاثٌ للمواجهة المباشرة في بلدٍ لا يتحرّك إلّا بطاقة التعفين الاجتماعي - السياسي. فإضرابُ الجوع وما يمكن أن يترتّب عليه من نتائج خطيرة على المشاركين فيه، وتعميمُ الإضرابات والاعتصامات، وتسخينُ الشعب أيّاماً عصيبة محتملة، إلخ .. هذا كلّه محاولة للوصول إلى "اللحظة المناسبة" التي تشعر فيها الأحزاب واتّحاد الشغل وعموم المواطنين باجتماع شروط إسقاط الانقلاب، وإمكان تسوية سياسيّة جديدة. والمشكلة الحقيقيّة أنّ هذه اللحظة المناسبة التي يريد "مواطنون ضدّ الانقلاب" صناعتها والبناء عليها، يتحيّنها اتّحادُ الشغل والمنتظم الحزبيّ التقليديّ لطلب الموقع بعدها، ويخنقها الانقلاب.