آخر الفلاسفة المحتَرمين

24 فبراير 2024

الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في مهرجان مراكش السينمائي (3/12/2013/WireImage))

+ الخط -

الإنسانية تحتضر. الحضارة تذوي وتموت. ما كان يصوّره الشاعر محمود درويش في قصائده الخالدة أصبح العالم يشاهده على المباشر. وفي هذا الخضم من البؤس والتوحّش، عبر إدغار موران عن شعوره بالإحباط والقنوط بسبب صمت الجميع تجاه ما يحصل للفلسطينيين هذه الأيام. يعدّ هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي من بين آخر المفكّرين ذوي الحكمة والرأي الذي تجاوز القرن (من مواليد 8 يوليو/ تموز 1921). وخلال هذه المسيرة الطويلة، تعرّف إلى ما وصفها بنهاية الأساطير الكبرى للحضارة الغربية، وحذّر من "التفاؤل المعتوه" الذي رسمته "الحداثة المأزومة". هذا المثقف المناضل الذي بقي محترما لماركس رغم انتقاده له، ولم يندَم على انتمائه للحزب الشيوعي رغم تلاشيه، وقف مذهولاً أمام هذه المجازر الرهيبة التي ترتكبها إسرائيل مباشرة على الهواء من دون خجل.

تحدّث الرجل، أخيرا في ندوة في مراكش، قائلا إنه مذهول، ليس فقط لحجم الكارثة، ولكن لموقف العالم تجاه هذه الجريمة ضد شعبٍ كامل. عبّر إدغار موران الذي اختار هذا العنوان لأحد كتبه "الأحمق الغبي هو من لا يفكر"، عن حيرته تجاه أولئك الذي اضُطهدوا قروناً يفعلون حاليا بالفلسطينيين كل هذا الفعل، ويصرّون على طرده من أرضه. وما أذهله أكثر "صمت أميركا حامية إسرائيل، وصمت الدول العربية، وصمت الدول الأوروبية التي تزعم أنها الحامية لحقوق الإنسان وثقافات الشعوب". وأضاف هذا الفيلسوف المتصالح مع إنسانيته "نحن أيضا عاجزون عن القيام بفعل ملموس لوضع حد لهذه المأساة. لم يبق لدينا إلا أن نشهد ضد هذا الظلم".

موران أعلم الناس بالتاريخ اليهودي المسيحي المشترك، ويعلم أيضا أن لا علاقة لمصدر ذلك الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود للعرب والمسلمين به، بل كانوا أبرياء من الجرائم التي ارتكبت في حق أتباع موسى. ومع ذلك ها هم الفلسطينيون يدفعون ضريبة غيرهم.

لا ندري كيف نامت السفيرة ليندا توماس - غرينفيلد ممثلة الولايات المتحدة بعد أن رفعت يدها في اجتماع مجلس الأمن، الثلاثاء الماضي، معلنة رفض بلادها مطالبة إسرائيل بوقف الحرب ضد غزّة. يبدو أن هذه السيدة المتعلّمة جيدا والحاصلة على شهادة في الحقوق أو الفنون وماجستير في الآداب نسيت أو تناست ما تعرّض له أجدادُها من استغلال وإذلال عنصري. خطفوا من الغابات الأفريقية، وحُملوا فوق سفن لنقل العبيد إلى أميركا بغرض إخضاعهم لرغبات الإنسان الأبيض. كيف نسيت ذلك كله، وهي تستعمل الفيتو للمرة الثالثة خلال شهرين ضد قرار من شأنه أن ينقذ أطفالاً ونساء عرضة كل يوم للقتل والتشريد والتجويع.

مرّت خمسة شهور على العدوان الإسرائيلي على غزّة. صمد الناس هناك صمودا تاريخيا غير مسبوق. استُشهد نحو ثلاثين ألف فلسطيني، وجرح ستون ألفاً، وهدمت مستشفيات وبيوت ومساجد وكنائس وأحياء كاملة. غرق الغزّيون تحت المطر، وحاصرتهم الثلوج، وأكلوا الحشيش وشربوا من المستنقعات، ولم يبق لديهم شيء يقتاتون منه. يهدّدهم الموت جوعاً في كل لحظة. آلاف الأطفال مشرّدون بلا مأوى ولا عناية ولا أمل. يقسم احدهم بالله أن "الناس في شمال غزّة تتساقط في الشوارع من شدّة الجوع". إنه انتقام المغول الجدد. إنها حرب التجويع التي تقودها إسرائيل بعد ان فشلت في حرب السلاح. هذا هو المشهد اليوم. هم يعيشون ويتحرّكون داخل حصون الماضي بعد تزويره وتوظيفه بشكل سيئ لصالحهم.

السكوت عن تجويع الأطفال والنساء في القرن الواحد والعشرين جريمةٌ لا تُغتفر. من سكت عنها فهو مشاركٌ في ارتكابها. مواجهة هذه المأساة لن يكون بالدعاء ولا بالبكاء ولا ببناء مخيّمات على أرض سيناء، لأن ذلك يعدّ بكل المقاييس تواطؤاً مع العدو، وهو عملٌ لن تغفره الأجيال القادمة. الرد على ذلك يكون فقط بفكّ الحصار، فهل أنتم مستعدّون؟