آدم عبد الله عثمان الزعيم الذي هضمه قومُه
لم ينل زعيم من الزعماء الكبار في العالم الثالث من النسيان والنكران وعدم الاهتمام ما ناله الزعيم الصومالي الكبير والأب المؤّسس للصومال الحديث، الرئيس والقائد، آدم عبد الله عثمان (1908 - 2007)، Aden Adde بالصومالية، برغم مكانة الرجل وإنجازاته في مسيرة نضال الشعب الصومالي وكفاحه، والتي لا تقل أهمية ودوراً عن أدوار المهاتما غاندي في الهند، ومحمد علي جناح في باكستان ونيلسون منديلا في جنوب أفريقيا وجيفارا في أميركا اللاتينية وغيرهم. فأي قارئ لتاريخ الصومال الحديث يدرك جيداً المكانة والدور الكبير الذي لعبه هذا الزعيم والمناضل الصومالي، الذي كان له الجهد الأكبر في التأسيس للصومال الحديث، وتوحيد شطري الصومال الجنوبي (الإيطالي)، والشمالي (الإنكليزي)، وإعلان الاستقلال وقيام الجمهورية الصومالية في 1 يونيو/ حزيران 1960.
كمهتم في شؤون القرن الأفريقي، والصومالي خصوصاً، صُدمتُ بحجم الغياب والتغييب لدور هذا الزعيم الكبير، وكنت كثير التواصل مع مثقفين وباحثين صوماليين، وكان يهولني حجم النسيان لسيرته ومسيرته، وما عدم وجود أي كتابة لسيرته وتاريخه إلا المؤشّر الواضح إلى ذلك الغياب والتغييب لدوره ونضاله الذي يشكّل تجربة نضالية ملهمة للصوماليين اليوم في سيرهم ومسيرتهم نحو المستقبل، بعد مغادرة مربع الاقتتال الذي طال، ولا تزال بعض بؤره مهدّدة بالانفجار.
وحينما كنت أبحث عن سيرة الرجل وتاريخه، لم أجد سوى كتاب غير مطبوع، وهو بحث لنيل شهادة الماجستير للطالب عبد الرحمن أبو بكر أحمد عن الرئيس آدم عبد الله عثمان ودوره في تاريخ الصومال الحديث (1960 - 1969)، لكنه أفرد فصلا وحيدا للرئيس وسيرته فقط، وبقية الكتاب عن التاريخ الصومالي عموماً، رغم أنه رسالة علمية، كان ينبغي أن تقتصر على حياة الرئيس ودوره.
أخيرا، صادفتُ خبراً شدّني، انعقاد ندوة في مقديشو لتوقيع (ومناقشة) كتاب عن سيرة آدم عبد الله عثمان. وبعد بحث وتقصّ وجدت أن الكتاب سيرة تفصيلية تفرغ لها الأكاديمي الصومالي محمد عيسى ترونجي، والذي قضى خمس سنوات من البحث والتنقيب في الأرشيفين البريطاني والإيطالي، وفي رسائل الرجل ووثائقه التي كان يكتبها يومياتٍ في أثناء رئاسته بلاده. صدر الكتاب، أخيرا، بالإنكليزية، ولم يترجم بعد إلى الصومالية والعربية، وهما اللغتان اللتان من المهم جداً أن يُترجم الكتاب إليهما، وخصوصا العربية. ليس هذا الكتاب فقط، وإنما أيضا معظم التراث الصومالي الفكري والثقافي، الذي يجهل العرب عنه الكثير. ومن هنا نتمنى من ناشر الكتاب ومؤلفه أن يسرعا في ترجمته وإيصاله لمتناول القارئ العربي المتعطّش لمعرفة الكثير عن الصومال التي يجهلها وتاريخها الثري نضالاً وكفاحاً وحكمة وتراثاً، فالصومال بلد ذو تاريخ عريق وله مساهمات كبيرة في نشر العربية والإسلام في شرق أفريقيا ووسطها، عدا عن دوره الكبير في مقارعة الإمبريالية الغربية منذ أيام البرتغاليين، وصولاً إلى مرحلة الاستعماريْن البريطاني والإيطالي، وهذه مرحلة خصبة من التاريخ الصومالي، الذي يغيّب تماماً ليس فقط عن العرب، وإنما عن الصوماليين أنفسهم، وخصوصا في ما بعد تغير الحرف العربي في الكتابة الصومالية، ما ترك فراغا كبيراً في الذاكرة والمدونة التراثية الصومالية أيضاً.
ثمّة إرادة وطنية تشتغل بصمت وعنفوان، عمودها الهوية الصومالية والإرادة المجتمعية الأهلية
صدور كتاب سيرة الزعيم الراحل وتاريخ نضاله اليوم مؤشّر مهم إلى ما تعيشه حاليا الأمة الصومالية من تحفز لاستعادة عافيتها ووجودها التاريخي والسياسي على خريطة القرن الأفريقي ومن ثم العالم، حيث تشكّل الصومال بموقعها واحدا من أهم المواقع الاستراتيجية في العالم.
أهمية إعادة قراءة تاريخ هذا الزعيم الصومالي الكبير ومسيرة نضاله وكفاحه مهمة للأجيال الصومالية الراهنة المشتتة في المنافي والشتات، والتي لا تكاد تعرف شيئا من تاريخ بلادها، رغم تمسّكها الشديد بهويتها الصومالية اللغوية والدينية، إلا أنها تفتقر لكثير من المعرفة التاريخية القريبة من تأسيس الدولة الصومالية وسردية النضال الوطني الطويل.
وحتى تلك الأجيال في الداخل الصومالي، التي لا تمتلك معرفة كافية بتاريخها وتاريخ نضالات الآباء المؤسّسين الأوائل ممن كانوا سبباً في قيام الدولة الصومالية بنضالاتهم وتضحياتهم الكبيرة، ولعل هذا ما يفسّر انهيار الدولة الصومالية بتلك الطريقة، ولماذا طال أمد استعادتها نحو ثلاثة عقود. ومع ذلك، ثمّة حركة نهوض في الأفق، لا تخطئها العين، تعتملُ في واقع الصومال الراهن، رغم حجم التحدّيات والإعاقات الكبيرة التي تواجه الصوماليين داخلياً وخارجياً، ثمّة إرادة وطنية تشتغل بصمت وعنفوان، عمودها الهوية الصومالية والإرادة المجتمعية الأهلية التي حافظت ثلاثة عقود على جذوة الأمل في قلوب الصوماليين الذين تركهم العالم فريسة سهلة للحروب والاقتتال والصراعات والجوع والجفاف، تركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم.
صدور كتاب عن آدم عبد الله عثمان، وبعد 16 عاماً من رحيله، خبرٌ سارٌّ ومؤشّرٌ مهم إلى بدء دوران عجلة استعادة الدولة الصومالية
صدور كتاب سيرة (ومسيرة) الزعيم الصومالي آدم عبد الله عثمان، وبعد 16 عاماً من رحيله، خبرٌ سارٌّ ومؤشّرٌ مهم ببدء دوران عجلة استعادة الدولة الصومالية وتعافي شعبها، وبدء تلمسّهم طريق الخلاص على خطى الآباء المؤسّسين. فمسيرة المؤسس الأول ملهمة بما فيه الكفاية، وترسم خريطة طريق للأمة الصومالية، التي تناوشتها الحروب والصراعات القبلية. سيرة لزعيم نضالٍ قدم صورةً مشرقةً للنضال الوطني الصومالي، لرجل الدولة الذي تسامى عن كل الحظوظ الشخصية والانتماءات القبلية، وانتمى للأمة الكبرى، وقدّم واحدة من أجمل صور الوطنية، حينما خاض أول انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ ليس في تاريخ الصومال فحسب، وإنما أيضا في تاريخ العالم الثالث كله، وخسر بفارق أصوات قليلة، وقبل بالنتيجة وسلم السلطة وعاد إلى بيته ومزرعته مواطناً عادياً في 10 يونيو/ حزيران 1967.
هذه الصورة المشرقة والمشرّفة لرجل كان المؤسّس الأول للدولة والجمهورية والوحدة مطلوبٌ أن يتمثلها اليوم كل الزعماء الصوماليين وغيرهم من زعماء العالم الثالث، باعتبارها صورةً ملهمةً ينبغي أن تدرّس للأجيال التي لا تعرف سوى صور الاقتتال والصراعات على كراسي الحكم في العالم والحروب والصراعات التي أرهقت مجتمعاتنا اليوم، ودمّرتها ودمّرت تراكمية فكرة الدولة في العالم الثالث، وخصوصا ما نراه اليوم في العالم العربي الكبير من حولنا.
ختاماً، نتمنى أن يكون صدور كتاب سيرة حياة الزعيم آدم عبد الله عثمان وكفاحه خاتمة خير، لإعادة الاعتبار لتاريخ هذا الزعيم الملهم والقائد الوطني الصومالي الكبير، وأن تستفيد الأجيال الصومالية الشابّة من سيرة هذا الزعيم، وأن تستلهم تجربته ونضاله، وأن تتمّ دراسة كل جوانبها، وأن يخصّص له يوم في الذاكرة الصومالية يتم الاحتفاء به بوصفه شخصية إجماع وطني جدير بالفخر والاحتفاء.