آيزنكوت ينقضّ على نتنياهو
لا تكتسب تصريحات عضو مجلس الحرب الإسرائيلي غادي آيزنكوت أهميّتها من أنها مؤشّرٌ إلى زيادة التصدّعات داخل هذا المجلس وحسب، بل من أنها تصدُر عنه شخصياً، فهو واحد من أبرز الجنرالات الإسرائيليين الأحياء، إضافة إلى أنه قد يكون الوحيد الذي اختبر محنة الخسارة في حرب الإبادة هذه بمقتل نجله الأكبر غال مئير فيها.
يرى آيزنكوت أن على النخبة الإسرائيلية، وتحديداً نتنياهو، التوقّف عن السير كالعميان، وعن الكذب على نفسها، وأن تتحلى بالشجاعة، وتتوجّه إلى عقد صفقة كبيرة تعيد المخطوفين. قد تعتبر تصريحات الرجل الأقسى، وربما تكون مقدّمة لخروجه وبيني غانتس من حكومة الحرب، وهذا إنْ حدث فسيعني انهيار حكومة نتنياهو خلال الحرب، وهذه وإنْ كانت مستبعدَة ستكون غير مسبوقة على الإطلاق في تاريخ إسرائيل التي تتحد نخبها خلال الحروب، وتؤجل خلافاتها إلى ما بعد انتهائها، حيث تبدأ عمليات تنظيف الإسطبلات، أي المحاسبة وتصفية الحسابات.
ليس من المتوقّع حدوث هذا نظرياً على الأقل هذه الأيام، ولكن تصريحات آيزنكوت تكشف عن مأزق القيادة في إسرائيل التي تخوض حرباً هي الأطول في تاريخها من دون إنجاز أيٍّ من أهدافها المعلنة، كما تكشف سيكولوجيا الرجل الذي فقد نجله، وبدلاً من أن يصبح من دعاة التصعيد والانتقام، ظلّ منسجماً مع نظريّته هو للأمن القومي، ما يمنح تصريحاته مصداقيةً أكبر في صفوف الجمهور، أو جزء منه، الداعي إلى وقف إطلاق النار، وخصوصاً ذوي الأسرى.
آيزنكوت هو رفيق غانتس في الحزب والخدمة العسكرية، والأخير مرشَّحٌ غير معلن للأميركيين لوراثة نتنياهو، مع فوارق كثيرة تجعل الكفّة ترجح لصالح آيزنكوت على غانتس في المعايير العسكرية، فهو صاحب استراتيجية الضاحية التي نفّذها فعلياً في حرب تموز/ يوليو عام 2006 على لبنان، وتقوم على تسوية المناطق المدنية بالأرض. وفي مقابلةٍ أجريت معه عام 2008، بسط آيزنكوت استراتيجيته القائمة على عدم تحميل الجيش عناء تدمير آلاف منصّات إطلاق الصواريخ في جنوب لبنان، وتجنيبه سفك دماء جنودِه للسيطرة على "القرى الشيعية"، والقيام بدلاً من ذلك بتدمير لبنان عن بكرة أبيه، فالقرى اللبنانية لا تضمّ مدنيين، بل هي قواعد عسكرية لحزب الله، ويجب تدميرها وضرب البنية التحتية للبنان كله، فاللبنانيون كلهم حزب الله، وقطاع غزّة كله هو خالد مشعل، وإيران هي محمود أحمدي نجاد.
مبدأ آيزنكوت أو استراتيجية الضاحية تحوّلت إلى مبدأ تأسيسي للجيش الإسرائيلي في حروب غزة عام 2008، و2014، و2019، وهي تنفذ حالياً بقسوة أكبر على أيدي تلاميذ آيزنكوت نفسه الذي تراجع عن مبدئه هذا عام 2019، بطرحه ما اعتبر في حينه أول نظريةٍ للأمن القومي في إسرائيل بعد التي أرساها بن غوريون في أربعينيات القرن الماضي، وتقوم على الحرب الاستباقية على أرض العدو، الصاعقة، القصيرة، والتي تنتهي بالنصر بالضرورة.
يرى آيزنكوت في شرحه نظريته أن الخطر الوجودي الذي يهدّد إسرائيل لم يعد قائماً، فحتى لو حازت إيران سلاحاً نووياً فإنها لا تشكّل "خطراً" وجودياً، بل "تهديد" مرتفع الخطورة. وبالنسبة له، إسرائيل دولة لا يمكن هزيمتها من الخارج، والخطر الأكبر والمركزي الذي يهدّدها حالياً هو التصدّعات في المجتمع الآخذة في التعمّق، وهذه خطر حقيقي ليس له طابع أمني تقليدي، فهو خطر اجتماعي يتمثل في احتمال تفكّك المجتمع جرّاء صراعات داخلية لا علاقة لها بالتعدّدية السياسية الطبيعية في النظام الديمقراطي. وبالنسبة إلى عدم التوصل إلى تسويةٍ مع الفلسطينيين فذلك يشكّل بالنسبة له "تحدّياً" للأمن القومي، فمعاهدات السلام مع مصر والأردن والاتفاقيات الإبراهيمية تشكّل نصف الكأس الممتلئ، بينما يجب أن يكون حلّ القضية الفلسطينية النصف الآخر للكأس، وسوى ذلك فإن حلّ الدولة الواحدة ثنائية القومية سيكون كارثةً ونهاية للحلم الإسرائيلي.
لا يعني هذا، بالطبع، أن آيزنكوت أصبح حمامة سلام، بل يعني أنه، بحسب المتحمّسين له، يسعى إلى أن يصبح إسحق رابين ثانياً، وأن مفهوم الأمن لديه لا يقتصر على التفوّق العسكري، بل على إيجاد بدائل من خارج الصندوق، ولا أظنّ أن مسعى آيزنكوت لو كان صادقاً سينتهي بالنجاح. وحده تشخيصُه لمركزية الخطر وكونه داخلياً، ويتمثّل بالتصدّعات داخل المجتمع الإسرائيلي صحيح، ونرى تجليات الهروب منها وإنكارها في غزّة، حيث تفوق تلاميذ آيزنكوت عليه بتجاوزهم استراتيجية الضاحية التي طبّقها بنفسه، ونظّر لها وتبنّاها.