أبعد من اقتحام المصارف اللبنانية

21 سبتمبر 2022
+ الخط -

قال وزير الداخلية والبلديات، بسام المولوي، بعد اجتماع مجلس الأمن المركزي في بيروت، السبت 16 سبتمبر/ أيلول الحالي، أنّ "هدفنا حماية البلد والمودعين، ولكن لا يجب أن يدفع أحدهم المودع للإضرار بالوضع الأمني في البلد، وإن هدف تشدّدنا بالإجراءات الأمنية ليس حماية المصارف، بل حماية النظام اللبناني". تزامنًا مع ما حدث، عقدت جمعية المصارف اجتماعًا طارئًا، وأخذت قرار الإقفال القسري ثلاثة أيام، على أن تعالج الأمور المتفاقمة أمنيًّا، وإلا ستكون المصارف أمام إقفال تام وطويل.

جاء كلام المولوي بعد أن شهد لبنان في يوم واحد سلسلة من اقتحامات مودعين مصارف في أكثر من منطقة، بهدف أخذ وديعتهم بقوة السلاح واحتجاز للموظفين والزبائن وأخذهم رهائن. ليست المرّة الأولى التي تشهد مصارف العاصمة أحداثاً كهذه، فقد سبقت ذلك سلسلة من الاحتجازات بهدف استعادة الأموال.

على خلاف العمليات السابقة، حملت عملية الاقتحام الأخيرة دلالات أوحت للقوى الأمنية بأنها مدبّرة، لأنها شملت أكثر من منطقة وعلى أكثر من مصرف. لهذا تخوّف وزير الداخلية من أن تكون الأمور مفتعلة وتستغل وجع المودع من جهة، وتلعب على الفوضى الدستورية والقضائية التي يتخبط بها البلد من جهة أخرى، كي تحقق أهدافها بعد الوصول إلى الفوضى الأمنية.

هذا وكانت أزمة اللا ثقة بدأت تتفاعل بين المودع والمصرف مع انفجار الوضع في لبنان، بعد نزول الناس إلى الشارع في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، عندها اعتمدت المصارف على الإقفال تحجّجًا بالأوضاع المتعثرة جرّاء قطع الطرقات بالإقفال فترة تجاوزت أسبوعين. في تلك الفترة، استطاع كبار المودعين والسياسيين ورجال الدين تهريب أموالهم إلى الخارج، بينما أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعميمًا ألزم فيه المصارف بحجز ودائع الناس في المصارف، ومنعهم من التصرّف بها إلا بعد تعاميم أصدرها المصرف المركزي، وكانت تصبّ في خانة الـ "هيركات"، أي سرقة نسبة من الودائع.

لم يستطع المودع استرداد أمواله وجنى عمره من المصارف التي كان من المفترض أن تكون أمينة على الوديعة

لم يستطع المودع استرداد أمواله وجنى عمره من المصارف التي كان من المفترض أن تكون أمينة على الوديعة. بالتزامن، شهد الوضع الاقتصادي انهيارًا بشكل كبير في لبنان، وتدهورًا لقيمة الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، فرفع ذلك من نسبة التضخّم، ما جعل المودع يعيش تحت خط الفقر، في حين أمواله محتجزة وسط غياب للمسؤول الذي لم يكلّف نفسه معالجة الخلاف القائم بين المودع والمصرف.

سيكونية الصورة ومشهدها المأساوي سيطرا على الجو العام في البلاد، وترجم بتوترات في العلاقة بين المودع والمصرف، وما زاد من تعقيد الأمور تصرفات المصارف تجاه المودعين، إلى درجة بات المودع يشعر بالذلّ أمام المصارف، وكأنه "يشحذ" أمواله.

ما حدث من سلسلة اعتداءات في أكثر من منطقة من المودع شكل مصدر قلق عند المتابعين، وجعل الدولة بمؤسساتها كافة تعيش حالة تخوّف وترقب مما قد يحدث إن ارتفعت وتيرة الاعتداءات، وبدأ الأمر يأخذ منحى تراجيديًّا في حال سقوط الضحايا من الرهائن أو الموظفين أم حتى المودع المقتحم.

توتير الوضع يخدم مصالح داخلية تهدف للوصول إلى حلحلة في مكان ما، لا سيما أن لبنان أمام استحقاقات كبيرة

لهذا، كشفت أوساط أمنية أن اقتحام المودعين حصل في أكثر من منطقة، ما يشير إلى أنّ الأمر ليس عفويًّا على رغم وجع المودعين، فالناس اقتحمت مصرفًا في كل منطقة تقريبًا. وبالتالي، هذه الحوادث خطيرة ومدروسة، وهناك من يضغط بهذا الاتجاه بهدف تشكيل حكومة ورفع سقف التفاوض في ملف الاستحقاق الرئاسي. إذ أكدت تلك المصادر أن هناك من يريد بأي ثمن وجود حكومة تجنبًا لبلبلة دستورية وفوضى أمنية.

ورأت أوساط سياسية أنّ التسخين من الباب المصرفي متعمّد من أجل الدفع بالفرقاء نحو تسريع عملية تشكيل الحكومة، لأن الأمور في لبنان، على ما يبدو، لا تنضج على "البارد بل على الحامي". هذا لا يعني أن الدولة لم تخطئ في اتخاذ تدابير أمنية للحفاظ على الاستقرار اللبناني، ومعالجة الاهتزاز الأمني، لأنه إذا "فلت الملأ" ستدخل البلاد في نفق خطير للغاية.

جميعها مواضيع عالقة بين فكي كماشة الكيدية والنكد السياسي. لهذا، قد يحدث أي تطور أمني مستجد خرقًا في جدار التعطيل المتوقف بين مطالب رئيس الجمهورية وتعند الرئيس المكلف بعدم تحقيق هذه المطالب. وعلمت مصادر سياسية أن الاتصالات التي تولاها حزب الله في الأيام الأخيرة لتسهيل عملية تشكيل الحكومة فشلت في المرحلة الأولى، رغم إقناع الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي بالاتفاق على تشكيلة لا تتسبّب بمشكلة لأحد.

لعب المصارف دور المتفرّج على ما يحصل قد يساعد في تعزيز الفوضى

يدرك المتعمّق في كشف مستورات الأحداث على الساحة الداخلية أنّ توتير الوضع يخدم مصالح داخلية تهدف للوصول إلى حلحلة في مكان ما، لا سيما أن لبنان أمام استحقاقات كبيرة. تتنوّع مصادر جذب اهتمامات اللبنانيين، من ترسيم الحدود، إلى الفوضى الاجتماعية، ومن خلافات الموازنة الى استحقاقي الرئاسة والحكومة. لهذا، هناك مصلحة عند أكثر من طرف داخلي، أو حتى خارجي، في إشعال الفوضى عبر المودعين لتحقيق مكاسب على أكثر من صعيد، أبرزها تشكيل الحكومة والاستحقاق الرئاسي.

أخيرًا، قد يكون ما يحدُث من اعتداءاتٍ يحمل طابعًا فرديًّا نتيجة الوصول باللبناني إلى مرحلة اليأس، وتحت عنوان "ما في شي نخسرو" يقدم على احتجاز المصرف للحصول على وديعته، أو حتى من جهات تريد إحداث التوترات، إلا أنّ الأكيد أن لعب المصارف دور المتفرّج على ما يحصل قد يساعد في تعزيز الفوضى. لهذا عليها أن تبادر فورًا إلى وضع حد للأزمة مع المودعين، وأن تنفرد بقراراتها خارج سقف جمعية المصارف، وتباشر التفاوض مع الدائنين، لتعيد الثقة المفقودة.

B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
جيرار ديب