أبعد من غزة والأردن

19 مايو 2016
+ الخط -
يُتوفّى، قبل أيام، الوزير والعين والنائب السابق في الأردن، عبد الباقي جمّو، فستدعي الصحافة سيرتَه، وتذكّرنا بمنبته الشيشاني، وهجرة والديْه إلى مدينة الزرقاء الأردنية من القوقاز، مطالع القرن الماضي، فيصبح في الوسع أن يُزعم إن المملكة الأردنية الهاشمية، بسببٍ من تنوّع أصول ساكنتها، تلتقي، حين يصبح جمّو فيها وزيراً ونائباً وعيْناً، مع شيءٍ ممّا في أميركا التي يصير فيها الكينيّ الأرومة، باراك حسين أوباما، رئيساً منتخباً، ومما في بريطانيا التي يختار سكان عاصمتها، قبل أيام، واحداً منهم، الباكستانيّ الأصل المسلم صادق خان، عمدةً لها. وفي مقدور من يودّ المحاججة أن يُنبّه إلى أنّ أول رئيسٍ لأول حكومةٍ في شرق الأردن كان لبنانياً درزياً، اسمه رشيد طليع، بعد أن كان حاكماً عسكرياً في حماه، ومتصرّفاً في كل من حوران واللاذقية وطرابلس. وإذ تمّ هذا في عشرينيات القرن الماضي الأولى، فإن عبد الباقي جمّو تولّى منصبه الوزاري في التسعينيات، وقبله الموريتاني الأصل، المولود في المدينة المنورة، محمد أمين الشنقيطي، كان وزيراً للتربية والتعليم في الخمسينيات.
ليس الولع بالحديث الرائج عربياً، عن الأصول والمنابت والأعراق والأديان والمذاهب، ما يشدّنا إلى تذكّر شيشانيّة عبد الباقي جمّو، في غضون ابتهاجٍ ظاهرٍ بإسلامية صادق خان في لندن وباكستانيته، وإنما هو طلب منظمة هيومان رايتس ووتش من رئيس الحكومة الأردنية، عبد الله النسور، تخفيف القيود الصعبة والمشدّدة على سفر الفلسطينيين الغزّيين في القطاع المحاصر إسرائيلياً ومصرياً إلى الأردن ومنه. ليست أنفاساً من نوستالجيا مقيمةٍ فينا، نحن الدقّة القديمة من المواطنين العرب، وراء شعورنا بهوْل أن نرى الصلة بين أهل فلسطين والأردن تستدعي "تدخلاً" من منظمةٍ حقوقيةٍ أميركية، بعد التبرّم العريض في غزّة وعمّان ورام الله من هذه القيود العويصة، والتي يعصى العثور على مسوّغاتٍ مقنعةٍ لها. ليست تلك النوستالجيا هي الموضوع، وإنْ تأخذُنا إلى أن الطبيب الشرق أردني، المسيحي الكركي الشيوعي، يعقوب زيادين، يُنتخب في الخمسينيات نائباً في البرلمان الأردني عن القدس. الموضوع بالضبط هو عجز السلطة في الأردن، كما كل سلطةٍ في غير بلدٍ عربي، عن تحقيق المعادلة التي توازي حقوق كل قُطر عربي في إجراء اللازم لحماية أمنه، والتحوّط من أعباء تستجدّ عليه بسبب مهاجرين ووافدين بلا ضوابط، مع الانتباه اللازم إلى حقوق المواطن العربي في أن يلحظ ما يحتاج من مقادير عروبيّة، في سفره وتنقله، وفي احتكاكه بكل جوار، ومع الوفاء البديهي لاستحقاقات "سايكس بيكو" إيّاها.
يُفهم التحسّب من تدفقٍ ضاغطٍ من اللاجئين السوريين الهاربين على الأردن ولبنان وغيرهما، غير أنه ليس في الوسع أن يُفهم حرمان سوريين كثيرين، يُدعون إلى تظاهراتٍ ومناسباتٍ ثقافية وعلمية في غير بلد عربي، ثم لا يُعطون تأشيرات دخول. ويُفهم أن يتم ضبطٌ خاص ومحسوب لمسألة التجنيس في البلاد العربية، غير أنه يعصى عليك أن تفهم حرمان المخرج المصري الكبير، محمد خان، وهو الذي أنجز روائع في السينما المصرية، من الجنسية المصرية، بدعوى أصله الباكستاني، قبل أن يتعطّف عليه عدلي منصور بها، استجابةً لمناشداتٍ بلا عدد. وفي البال أن شاعر العامية المصرية، بيرم التونسي، احتاج أن تقوم ثورة يوليو في 1952 ليحوز الجنسية المصرية. وواحدٌ من مظاهر بؤس الحال العربي أن تأخذك تلك العلاقة المتشنّجة بين السلطات الأردنية والفلسطينيين في قطاع غزة إلى زوبعة كل هذه المسائل، المشتبكة حُكماً ببعضها، والموصولة بتفاصيلَ بلا عددٍ في غير بلد عربي، وكلُّ بلد عربي ذو سيادةٍ وأمنٍ قومي، وما إلى ذلك من كلام كبير يروج، ويحترف الثرثرة عنه مشتغلون في فضائياتٍ وجرائد غير قليلة، في مصر والأردن وغيرهما (وفي سورية أيضاً!).
من دون تطويل كلامٍ كثير. ما بين الأردن والفلسطينيين، في قطاع غزة المحاصر، وفي عموم الأراضي المحتلة، أقوى من أي حساباتٍ لدى أي أجهزة، وهو يجعلنا في فزعٍ من وصولنا إلى وساطةٍ تُبادر إليها "هيومان رايتس ووتش" لدى عبدالله النسور.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.