28 أكتوبر 2024
أبعد من غسّان مفاضلة
يتأكّد كل يوم (لا مبالغة)، أن ثمة خللاً شاسعاً بشأن علاقة الإنسان العربي الراهن مع مسألتي الجمال والحرية، يفسّر الاعتداءات اليومية على منتجات فنانين ومبدعين وأدباء عديدين، بالتجرؤ عليها، أو أخذ أصحابها إلى المحاكم، أو التقوّل عليهم أو التحريض ضدهم، أو أقله الاستخفاف بقيمة ما يُنجزون، وكيفما اتفق. ففيما تتواتر الأنباء، بالعاديّة المعلومة، عن مقتل مئاتٍ، في غير نزاعٍ واقتتالٍ أهليّين في غير مطرحٍ عربي، فإن أنباءً موازيةً لا تتوقف عن وقائع تؤشر إلى حَوَلٍ شائعٍ في النظر إلى إبداعات الفنانين والأدباء، يُمارسه ناسٌ نافذون في مواقع مسؤولة. فلا يُحسَب سلوك رئيس بلدية مدينة جرش الأردنية، علي قوقزة، أخيراً، مع منحوتةٍ للفنان الأردني، غسّان مفاضلة، تعبيراً فقط عمّا في مداركه عن الفنون وأجناسها، بل هو سلوكٌ يتجاوز شخص قوقزة إلى أوساطٍ غفيرةٍ، تضم، بين من تضمّهم، مسؤولين في وزاراتٍ وإداراتٍ وبلدياتٍ ومؤسساتٍ عربيةٍ بلا عدد. فهذا رئيس بلدية باقة الغربية في فلسطين، مرسي أبو مخ، حشد، قبل أيام، من أجل فصل المربي، علي مواسي، من عمله مدرساً في إحدى الثانويات، وعدم السماح له بالتدريس في غيرها في المدينة، لعرضِه فيلماً فلسطينياً على تلاميذ في المدرسة، رآه بعضُهم خادشاً للحياء العام، فيما هو عن سطوة الاحتلال الإسرائيلي. ويتوازى مسلكا أبو مخ وقوقزة مع استهجان مندوب ليبيا في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) عدم وجود مختصٍّ في الشريعة، ليقول رأيه في الفن والإبداع، في ندوة عن "دور الفن في مواجهة التطرف الفكري والإرهاب"، استضافتها المنظمة قبل أيام، على هامش افتتاح مبناها الجديد في تونس.
في الوسع أن تُضاف حوادثُ كثيرةٌ تدل على الحوَل والخلل المتحدّث عنهما، غير أن هذه السطور تعتني بالاعتداء البائس على منحوتة غسان مفاضلة في جرش. أزالها (أو اجتثّها) علي قوقزة من مكانها في مدخل المدينة، واحتفظ بها في مستودعٍ للبلدية. وهي نصبٌ فني من ثلاث صفائح حديدية وثلاثة قضبان معدنية، بارتفاع ثمانية أمتار، شكّل منها مفاضلة مشهديّةً توحي بحركةٍ انسيابية، وانحناءات مرنة، ضمن مشروعه الفني "الإنسان والمكان"، والذي يحيل إلى العلاقة المفتوحة بينهما. انتصبت المنحوتة في مكانها، بالترتيب مع البلدية التي تسلمتها من وزارة الثقافة. ولكن، جاء إلى بال قوقزة، لاحقاً، أنه كان من الأفضل لو أن هذا العمل الفني أحال إلى "الخصال الحميدة المعروفة عن أهل المنطقة". ونقل عنه مفاضلة قوله إن القضبان الثلاثة التي تتوسط المنحوتة تُحيل إلى شمعدان الإسرائيليين اليهود، وإنه ودَّ لو أن تيجاناً وضعت عليها.
أجاز رئيس البلدية المنتخب، إذن، لنفسه أن يُفتي، بهذا الكلام، عمّا كان يحب أن يقوم به غسّان مفاضلة. وبدا أنه، في "تذكّره" الشمعدان اليهودي، إنما أراد التسلح بما يمنح "فتواه" وقعاً يأنس له أهل جرش، والأردنيون عموماً، وجميعهم ساهون عمّا فطن إليه بنباهةٍ يُغبط عليها. ومن موقع المسؤولية التي يقيم عليها، اقترفَ اعتداءه هذا على عملٍ فني، وفي باله أنه صاحب سلطة ونفوذ يبيحان له هذا الأمر، ولا سيما أن وزارة الثقافة لا دالّة لها عليه، بعد أن صارت المنحوتة من ممتلكات بلديته، وفي عهدته، وهو ينوي زراعة النخيل (الشجرة المباركة) مكانها. لم يكن علي قوقزة، فيما أقدم عليه، يجترح مسلكاً عربياً مستجدّاً، فالنّصب والمنحوتات والتماثيل والتصميمات الفنية في ميادين المدن العربية، (ومنها الأردنية)، وشوارعها، متاحةٌ، على الأغلب، لمن أراد "اجتهاداً" بشأنها. ومن ذلك أن عملاً نحتياً لفنانة أردنية، في ميدانٍ في عمّان، طلي باللون الأبيض، من دون درايتها، أو استشارتها. وأن تمثالاً لمحمد عبد الوهاب في القاهرة دهنه بعضهم بالأصفر، من دون شعورهم بأي حسٍّ جمالي أو مسؤوليةٍ عامة... القضية أبعد من غسان مفاضلة، إنها موصولةٌ بالقاع الذي يقيم فيه الراهن العربي.
في الوسع أن تُضاف حوادثُ كثيرةٌ تدل على الحوَل والخلل المتحدّث عنهما، غير أن هذه السطور تعتني بالاعتداء البائس على منحوتة غسان مفاضلة في جرش. أزالها (أو اجتثّها) علي قوقزة من مكانها في مدخل المدينة، واحتفظ بها في مستودعٍ للبلدية. وهي نصبٌ فني من ثلاث صفائح حديدية وثلاثة قضبان معدنية، بارتفاع ثمانية أمتار، شكّل منها مفاضلة مشهديّةً توحي بحركةٍ انسيابية، وانحناءات مرنة، ضمن مشروعه الفني "الإنسان والمكان"، والذي يحيل إلى العلاقة المفتوحة بينهما. انتصبت المنحوتة في مكانها، بالترتيب مع البلدية التي تسلمتها من وزارة الثقافة. ولكن، جاء إلى بال قوقزة، لاحقاً، أنه كان من الأفضل لو أن هذا العمل الفني أحال إلى "الخصال الحميدة المعروفة عن أهل المنطقة". ونقل عنه مفاضلة قوله إن القضبان الثلاثة التي تتوسط المنحوتة تُحيل إلى شمعدان الإسرائيليين اليهود، وإنه ودَّ لو أن تيجاناً وضعت عليها.
أجاز رئيس البلدية المنتخب، إذن، لنفسه أن يُفتي، بهذا الكلام، عمّا كان يحب أن يقوم به غسّان مفاضلة. وبدا أنه، في "تذكّره" الشمعدان اليهودي، إنما أراد التسلح بما يمنح "فتواه" وقعاً يأنس له أهل جرش، والأردنيون عموماً، وجميعهم ساهون عمّا فطن إليه بنباهةٍ يُغبط عليها. ومن موقع المسؤولية التي يقيم عليها، اقترفَ اعتداءه هذا على عملٍ فني، وفي باله أنه صاحب سلطة ونفوذ يبيحان له هذا الأمر، ولا سيما أن وزارة الثقافة لا دالّة لها عليه، بعد أن صارت المنحوتة من ممتلكات بلديته، وفي عهدته، وهو ينوي زراعة النخيل (الشجرة المباركة) مكانها. لم يكن علي قوقزة، فيما أقدم عليه، يجترح مسلكاً عربياً مستجدّاً، فالنّصب والمنحوتات والتماثيل والتصميمات الفنية في ميادين المدن العربية، (ومنها الأردنية)، وشوارعها، متاحةٌ، على الأغلب، لمن أراد "اجتهاداً" بشأنها. ومن ذلك أن عملاً نحتياً لفنانة أردنية، في ميدانٍ في عمّان، طلي باللون الأبيض، من دون درايتها، أو استشارتها. وأن تمثالاً لمحمد عبد الوهاب في القاهرة دهنه بعضهم بالأصفر، من دون شعورهم بأي حسٍّ جمالي أو مسؤوليةٍ عامة... القضية أبعد من غسان مفاضلة، إنها موصولةٌ بالقاع الذي يقيم فيه الراهن العربي.