أبعد من مسعود أبو عجيلة
حزمة من المعاني والأبعاد، في الوُسع الوقوع عليها، من مثول الليبي مسعود أبو عجيلة أمام محكمةٍ في الولايات المتحدة، أياما بعد اقتحام مسلّحين منزله قرب طرابلس، لتتسلّمه السلطات الأميركية من حكومة الوحدة الوطنية، وهو الذي تتّهمه الولايات المتحدة، رسميا (النائب العام) بتصنيع القنبلة التي وُضِعت في الطائرة الأميركية التي سقطت فوق بلدة لوكيربي الاسكتلندية في ديسمبر/ كانون الأول 1988، وكانت متّجهة من لندن إلى نيويورك، فقضى 270 شخصا. ومعلومٌ أن نظام معمّر القذافي دفع في تسويةٍ لملف القضية بينه وبين واشنطن، أعلنت في العام 2008، حوالي 2,7 مليار دولار لأسر الضحايا. وكان الضابط في المخابرات الليبية، عبد الباسط المقرحي، قد دين بالتورّط في عملية التفجير، وحُبس سبع سنوات في سجن اسكتلندي. وفيما الولايات المتحدة، بموجب التسوية، ملزمةٌ، في مرسومٍ أصدره الرئيس جورج بوش (الابن)، بعدم فتح أي مطالباتٍ جديدةٍ بشأن أي أفعالٍ ارتكبها أيٌ من الطرفين بحقّ الآخر قبل إقفال القضية، جاء اتهام أبو عجيلة، ثم خطفه (اقرأ تسليمه) الشهر الماضي، ثم بدء محاكمته قبل أيام، ليعني هذا كله، من بين كثيرٍ يعنيه، أن للولايات المتحدة منطقها الخاص بشأن العدالة في ما يتعلق بحقوق مواطنيها، وهو منطقٌ لا يعتدُّ بحكاية ذلك الالتزام بإقفال هذه القضية لأن نظاما سافلا كان على رأسه طائشٌ اسمه معمّر القذّافي جرى إجبارُه بدفع تلك المليارات.
عندما نعرف أن أميركيا، شقيقا لأحد ضحايا التفجير، تقصّى في القضية مجدّدا، وعثر على اسم الليبي (التونسي في جنسية ثانية له) مسعود أبو عجيلة (80 عاما، أو 71 عاما في مصادر أخرى)، وأمكن له أن يمرّر اسم هذا الرجل لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي الذي تجاوب مع مطلب فتح القضية، فاستجابت السلطات التنفيذية لمطلب توفير أبو عجيلة أمام "العدالة الأميركية"، فكانت عملية التسليم، عندما نعرف هذا، يجوز الحديث، إذن، عن سلطةٍ معنويةٍ فاعلةٍ للمواطن الأميركي، تُصيبك أنت الشرق أوسطي، العربي، العالمثالثي، بالأسى والدهشة، سيما وأن عبد الحميد الدببية يبرّر، الأسبوع الماضي، تسليم مواطن ليبي، في سلوك خارج القانون (خطف معلن)، بأن لا تتحمّل ليبيا تبعات عمليةٍ إرهابية، وبمصلحة الشعب الليبي التي تقتضي التعاون مع الدول الكبرى في هذا الخصوص. ويُدهشك أن القذّافي امتنع سنواتٍ عن تسليم المقرحي (والأمين خليفة فهيمة)، إلا بعد مداولاتٍ قضائيةٍ ومساوماتٍ وتفاصيل مضنية، وإنْ لك أن تفترض أنه كان يعمَل على تحييد اسمه ونظامه من مسؤوليةٍ مباشرةٍ عن الجريمة المشهودة، وهو ما كان.
مسعود أبو عجيلة ضابطٌ سابقٌ في مخابرات القذّافي، حوكم تاليا في تهمٍ لا صلة لها بقضية تفجير الطائرة، وحُبس عشر سنواتٍ في بلده، وقد رفضت ليبيا تسليمه لمحكمة الجنايات الدولية، غير أنه اليوم يمثُل أمام محكمةٍ أميركية (يقول الدبيبة إن وفدا من حكومته يواكب في أميركا مقاضاة الرجل، وكلَّفت مكتب محاماةٍ لمتابعتها)، في واقعةٍ تذكّر، من بين ما تذكّر به، بالجَلَد والدّأب اللذيْن تثابر عليهما دول قويةٌ، ديمقراطيةُ، تقيم كل الوزن لحقوق المواطن فيها، في شأنٍ يخصّ هذه الحقوق، فلا تجيز أن تتقادم قضية قتل ركاب طائرةٍ بقنبلة. ولأن لا مطرح للإهمال والتناسي وطيّ الذاكرة في شأنٍ كهذا، يقول الوزير بلينكن، في إيضاحه شحن أبو عجيلة إلى حيث هو حاليا، إن الولايات المتحدة لم ولن تتوقّف عن السعي إلى تحقيق العدالة نيابة عن الشعب الأميركي.
لمَ لا نتذكّر هنا أن مروحية أميركية نقلت اللبناني، الأميركي الجنسية، عامر فاخوري، العميل المجرم في سجن الخيام الإسرائيلي، من حيث السفارة الأميركية في بيروت، إلى قبرص ثم إلى الولايات المتحدة، بعد إفراجٍ عنه من محبسِه؟ لم لا نتذكّر الطائرة الخاصة التي نقلت المصرية الأميركية، آية حجازي، من القاهرة فور إطلاق سراحها، إلى الولايات المتحدة، ليستقبلها الرئيس ترامب في البيت الأبيض؟ لمَ لا نتذكّر البريطاني ماثيو هيدغز الذي طار إلى بلده، بعد أسبوعين فقط أمضاهما في سجنٍ في أبوظبي، وقد حكمت عليه محكمةٌ إماراتية بالسجن المؤبد لاتهامه بالتجسّس؟... إذن، أين العجب في أن يتجدّد ملف لوكيربي، ويُؤتى بمواطن ليبي إلى محكمةٍ أميركيةٍ مخطوفا من منزله في بلده، وليس مستبعدا فرض مبالغ جديدة على ليبيا لضحايا جريمةٍ ارتُكبت قبل 35 عاما.