أبعد من مهرجان جرش
تنشغل الأوساط الثقافية الأردنية، وغير الثقافية أيضاً، هذه الأيام، بمهرجان جرش، ما إذا كان سيُعقد في موعده (24 يوليو/ تمّوز المقبل) أم لا، ومردّ ذلك أنّ وزيرة الثقافة، هيفاء النجار، أصدرت في يوم واحد تصريحَين متناقضَين، قالت في الأول إنّ المهرجان سينطلق في موعده، وفي الثاني، إنّه ليس أولوية، نظراً إلى الأوضاع الراهنة في قطاع غزّة. وواضح، حتّى كتابة هذا المقال، أنّ الحكومة الأردنية لم تحسم قرارها رسمياً بعد، دعك من التسريبات، تأجيلاً كان أم تأكيداً أنّ المهرجان قائمٌ في موعده، مع تغييرٍ تقتضيه المقتلة المفتوحة في الجوار الفلسطيني.
انطلق المهرجان عام 1981، ولعب الأكاديمي، والدبلوماسي لاحقاً، مازن العرموطي، وهو من الروّاد في مجاله وانشغالاته، دوراً كبيراً في انتظام المهرحان وربطه بالمجتمع المحلّي والثقافي، فالرجل من أوائل الأردنيين الذين حازوا الدكتوراه في الصحافة والإعلام، وفي سجلّه أنّه لم يكتفِ بتأسيس أوّل قسم للصحافة في البلاد، وكان ذلك في جامعة اليرموك (شمال البلاد)، بل قدّم لبلاده، أيضاً، ما سيصبح مفخرتها الثقافية والفنية (مهرجان جرش)، ودفع بطلابه إلى الانخراط فيه تنظيماً وإشرافاً وعملاً في مدار الساعة.
حظي المهرجان، في حينه، برعاية القصر الملكي والحكومات المتعاقبة وحدبهما، واستضاف أهم شعراء العربية الأحياء وكبار الفنّانين، إضافة إلى عشرات الفرق الموسيقية والغنائية الشعبية، وبعضها يُمثّل التيار المضادّ للثقافة السائدة والمُكرَّسة في العالم، كما أتاح لمشاهد محلّي، لم يعرف المسرح إلا في شاشة التلفاز، إمكانية مشاهدة شكسبير على مسارح المدينة الرومانية القديمة في جرش. في هذا المعنى، تكمن أهمية المهرجان، في أنّه تحوّل إلى جزءٍ مما تسمى القوّة الناعمة، وكونه ربط الفعل الثقافي بالبيئة المحلّية، وكانت حاضنة في حينه. ولهذا السبب تحديداً، أي كون المهرجان جزءاً من الثقافة الإنسانية وليس فقّاعة غنائية إذا شئت، أجّل في العام التالي (1982) بسبب الغزو الإسرائيلي لبنان، وهو ما تكرّر (التأجيل) عام 2006 لتزامنه مع حرب تمّوز على جنوب لبنان. طبعاً، لا تُحتسب هنا أزمة كورونا، التي كانت وراء تأجيل المهرجان عام 2020، ولا السنوات الثلاث؛ ما بين 2008 و2011، التي أوقفت فيها الحكومة الأردنية المهرجان واستبدلته بآخر لم يُقيّض له النجاح.
في المرّتين اللتَين جرى تأجيل المهرجان فيهما، كان السبب ينسجم مع "الرؤية" التي تأسّس عليها المهرجان نفسُه، وهي ارتباطه بالثقافة بمعناها العميق والحقيقي، جزءاً مكوّناً وتأسيسيّاً للمجتمعات. ولأنّ هذه الثقافة جزءٌ من عملية بناء الإنسان والدول، لا الترفيه فقط، ولأنّ المهرجان يُشكّل رافعة للدولة، تسويقاً وتعبيراً عن وجودها وشعبها، وهو ما يُعبَّر عنه أحياناً بـ"القوّة الناعمة"، وأسبابها تتجمّع في السنوات القليلة الماضية على نحوٍ لا تستطيع السلطات تجاهله أو تجويفه وإفراغه من المعنى، فزائر الأردن يستطيع أن يلمس حِراكاً يتصاعد لاستعادة الدور الثقافي للبلاد، التي جُفّف كثيرٌ من مائها، وطُمِرت سيولها وأنهارها، وإنْ كانت صغيرة، ما صحّرها ثقافياً على نحو غير مفهومٍ أو مُبرَّرٍ.
هناك عشرات المقاهي الثقافية والغاليريهات، ومساع مُقدّرة لإحياء الحركة المسرحية، وعودة مُبشّرة لرابطة الكُتّاب، وذلك كلّه بمبادراتٍ فردية، وفي معزل عن أيّ دور للحكومات، التي يبدو أنّها أدمنت واستطابت استقالتها من كثير من أدوارها. ويأتي مهرجان جرش ليكون المختبر لرؤيتَين: واحدة حقيقية تريد منه العودة إلى ينابيعه الأولى، والثانية لا ترى فيه سوى مهرجانٍ للفرح، والأخير تعثرُ عليه بيسر إذا كنتَ على ثراء في الحفلات التي تقام في فنادق النجوم الخمس، فلستَ مُضطرّاً لمراعاة مواضعات المجتمع، ولا معايير الثقافة ومسؤولياتها، إذا رغبت في حضور حفلة للفنان المصري محمد رمضان في أيّ من فنادق العقبة (جنوب الأردن)، ولكنّكَ مُضطرٌ أخلاقياً لذلك، لو كان الحدث يتعلق بمهرجان يُفترض أنّه ثقافي، وما أطلقه الآباء المؤسّسون، إذا جازت التسمية، ليكون بازاراً للثقافة المُبتذلة أو العبث الغنائي والموسيقي، الذي يسرطن حياتنا. وأظن أنّ على الدولة الأردنية، وليس الحكومات فقط، أن تعرف أين تضع قدميها عندما يتعلّق الأمر بالثقافة، فمحمود درويش أو غالب هَلَسا أو مصطفى وهبي التلّ أو مؤنس الرزاز ليسوا مُجرّد صور بالأبيض والأسود، يُراد لها أن تُعلَّق في المقاهي الرخيصة لمنحها "عُمقاً ثقافياً". كلّا، هؤلاء بناة الهُويّات وحُرّاسُها.