أبوظبي والقاهرة .. ومصابيح أبي أحمد
ليكن حضور رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، الأسبوع الماضي، أول عملية إنتاجٍ من الطاقة الكهرومائية من سد النهضة، عملاً دعائياً يُسعفه في تدعيم صورته في بلاده. ولكن حسبان الأمر على هذا النحو لا يعني شيئاً، ولا يخدش، في أيّ حال، المضي في مشروع بناء السد وتشغيله وفق المخطّط له، من دون اكتراثٍ جدّي بالمخاوف المصرية، الحقيقية، من خصمٍ مؤكّدٍ، معلومٍ ومحسوب، في حصّة مصر التاريخية من مياه النيل، وطبعاً من دون أيّ التفاتٍ إلى غضب القاهرة الذي تعبّر عنه بقولها إنّ أديس أبابا، في إنتاج 375 ميغاوات كهرباء أخيراً من السد، "خرقت" التزاماتها في اتفاق المبادئ الموقّع في 2015، فليست الحكومة الإثيوبية في وارد خوض جدال قانوني (وغير قانوني) في هذا المطرح. وها هو أبي أحمد يتوسّل الإنشائية العاطفية ويؤْثِرها على الأخذ والردّ في أمر ذلك الاتفاق، فيقول، في حضوره عملية إنتاج السد هذا المقدار من الكهرباء، إنّ بلاده "لا تريد إلحاق الضرر بأحد، ولا ترغب إلّا في توفير الكهرباء للأمهات اللواتي لم يريْن قط مصباحاً متوهّجاً". وعندما تكون القصة هنا، في هذا الموضع، فإنّ الأفئدة ستتفطّر جزَعاً من كلّ تلك العتمة التي غالبتها تينك الأمهات. ولا يكتفي أبي أحمد بفائض مشاعر الإشفاق عليهن، وإنما يزيد إنّ الخطوة ستُسهم في إخراج شعب إثيوبيا "الكادح من الفقر الذي هو فيه".
ولكنّ رجل إثيوبيا، الحاكم، لا يكتفي بالمجازات والاستعارات في شأنٍ استراتيجي، عنوانُه نهوض بلاده، ولا يعنيه في شيءٍ إن سلّموا في القاهرة بأنّه بالغ الجدّية، أو أشغلوا أنفسهم بدعائيّاته واشتغاله على صورته أمام مواطنيه. ولا يبدو أنّه يُنفق كثيراً من وقته في التواصل مع "المجتمع الدولي" لإسناد مشروع السدّ بالكيفية الإثيوبية المحضة. ولا يولي، مع معاونيه وحكومته، قصة الاجتماعات والمفاوضات، برعاية الاتحاد الأفريقي أو غيره، شـأناً عظيماً، على غير حال أهل القرار في مصر. الأجدى من هذا وذاك بناء شبكات علاقات اقتصادٍ وتنميةٍ واستثمارٍ مع دول في الشرق والغرب، من أجل مصابيح الأمهات الإثيوبيات، وإخراج شعبهن الكادح من فقره. ولمّا كانت الصين وجهةً فُضلى في هذا، وكذا شركات إيطالية، من أجل المضي في إنجاز السد وتشغيله، فإنّ العلاقات مع الإمارات تحضُر ركناً داعماً لإثيوبيا، ليس فقط على صعيد اقتصادي واستثماري له جدواه للجانبيْن، وإنما أيضاً في المستويين، السياسي والعسكري. ومن هنا، يصبح مسوّغاً، أو أقله قابلاً للتصديق، ما يتسرّب، بين حين وحين، عن تبرّمٍ مصري ليس هيّناً، رسمي وإعلامي، من اتساع مساحات العلاقات بين أبوظبي وأديس أبابا، إلى حد أنّ مجلس الشعب المصري شهد، قبل شهور، مشادّة كلامية، بين نائبين، بشأن ما سمّاها أحدهما مشاركةً إماراتية في بناء سد النهضة. والحقيقي أنّه ليس من دولةٍ تُشارك في هذا، وإنّما هي شركاتٌ كبرى. وإذ لا يقع المتابع على أسماء شركات إماراتية تعمل مباشرة في تشييد السد وتشغيله، فإنّ من بين نحو 115 مشروعاً إماراتياً استثمارياً في إثيوبيا 21 مشروعاً في المجال الزراعي واستصلاح الأراضي وزراعة الأرز والقمح والذرة في آلاف الأفدنة، وبعضها، كما مشروعات حفر الآبار (وتسمين العجول)، موصولٌ، بكيفيةٍ أو بأخرى، بنجاح مشروع سد النهضة، وبالطاقة الكهربائية منه.
لا ترتاح القاهرة إلى هذا كله، تكظم زعلها. وليس في وسعها أن تعلن استياءً من مشاريع ربحية وتنموية كهذه، تخصّ بلداً عربياً يُحسب حليفاً، غير أنّ الدعم العسكري الكبير الذي سوندت به حكومة أديس أبابا من أبوظبي في أثناء النزاع الدامي في إقليم التيغراي، بالمسيّرات والصواريخ والذخائر وغيرها، كان مبعث غضب القاهرة التي ترى أنّ أيّ قلاقل تواجه أبي أحمد تصبّ في طاحونتها، سيما أنّ الخيارات التي تنهجها الإمارات في القرن الأفريقي (دعم "أرض الصومال" وانفصالها، إزعاج صديق مصر رئيس جيبوتي عمر جيلة، مناصرة إسرائيل في مشروعاتها الأمنية والاستخبارية في أفريقيا..) لا تتفق أبداً مع الحسابات والرهانات المصرية. وليس "كلام جرائد" ما تأتي عليه تقارير صحافية عن "مخاوف مصرية" من سياسات أبوظبي هناك، وإنْ يزور عبد الفتاح السيسي ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، يومين قبل زيارة أبي أحمد الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، غير أنّ وراء الأكمات ما وراءها، وأنّه يجوز، في موضعٍ ما، لقائل أن يقول إنّ كهرباء سد النهضة ليست وحدَها تُشعل مصابيح أمهاتٍ إثيوبياتٍ، حدّثنا عنهن أبي أحمد.