أبو الخيزران في عامه الستّين
هل غالى الفلسطينيون في أيقَنة غسّان كنفاني وأمْثَلته؟ هل هو نموذجُه كاتبا مناضلا (بدون واو العطف كما يطلب محمود درويش) ثم شهيدا، يظلّ مُغوِيا لاستدعائه الدائم؟ هل هو الاستثنائي الغزير، في شخصه، يحفّز على بقاء اسمِه في كل وقت، وهو الذي تعدّدت ملَكاتُه قاصّا وروائيا ورسّاما وصحفيا وقائدا ومسرحيا وسياسيا، ثم تستهدفُه إسرائيل في جريمةٍ مشهودةٍ، فيقضي عن 36 عاما فقط؟... هذه بعضُ أسئلةٍ، يُمكن أن تتداعى منها أخرى، تُيسّرها احتفائيةٌ فلسطينيةٌ بستّين عاما على صدور "رجال في الشمس"، أولى روايات غسّان، في عامه السابع والعشرين. وكانت فعالياتٌ قد أحيت الذكرى الخمسين لاستشهاده، طوال العام الماضي الذي شهد إعلان وزارة الثقافة الفلسطينية جائزةً عربيةً للرواية تحمل اسمَه. وهذه آية البرغوثي تُطلق في معرض فلسطين الدولي للكتاب، هذه الأيام، كتابها "الخزّان"، مرفقا بصور ورسوم، مستوحى من الرواية الشهيرة التي تُرجمت إلى لغاتٍ عديدة (لم تُحرِز مقروئية في الغرب). وربما كانت مساهمةً في الاحتفالية الراهنة بالعام الستّين للرواية، ذات القمية الخاصّة في السّرود الفلسطينية، أن المسرحي الفلسطيني، فتحي عبد الرحمن، أنجز مسرحيةً من وحيها، شوهدت في رام الله الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، قرأتُ أنه أعمَل فيها تدخّلا على وقائع في الرواية، فلم يختتمها بصيحة أبي الخيزران، في أبو قيس وأسعد ومروان: لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟
لا أظنّها، هذه المقالة، في حاجةٍ إلى إيجاز حدّوتة الخزّان وأولئك الفلسطينيين الثلاثة، الذين أرادوا من السائق أبو الخيزران تهريبَهم في خزّان سيارته من الأراضي العراقية إلى داخل الكويت. تأتي الرواية، بالغة التكثيف في صفحاتها نحو المائة، على ماضي كلّ واحدٍ من هؤلاء، وقد شخّصت نزوعَهم إلى الهروب من واقعٍ شخصيٍّ وعامٍّ كانوا فيه. وذلك بمناورةٍ بنائيةٍ وأسلوبيةٍ بين السرد بضمير الغائب وبالمونولوغ الداخلي. كما تَعرّفْنا في مسار النصّ على العجز الجنسي الذي عليه السائق المهرّب، الانتهازي، بعد أن أصيب في عمليةٍ فدائيةٍ ضد المحتلين في 1948، وهو الذي كان قد تجنّد في جيش الانتداب البريطاني. محبّ للمال، يلقي بجثث الثلاثة في مكبّ نفايات، وينشل ما في جيوبهم من دنانير قليلة.
لا يُخطئ من يرى أبا الخيزران شخصيةً مركزيةً في الرواية التي استأثرت بمئات الدراسات والأبحاث والقراءات والمقالات النقدية والجامعية في ستّين عاما. إنه الفاعل الأهم في مجرى القصّ، شخصيةٌ مركّبة، يبدو ضحيةً وقاتلا في آن، يستخفّ بحياة الذين يريد تهريبَهم، لكنه لم يُرد موتَهم، لذلك كانت صيحتُه صادقة. يبتزّهم، ثم لا يسرقهم إلا بعد موتهم. قد تغشاك نوبةٌ من تعاطفٍ طفيفٍ مع محنته، هو الذي ضاعت فحولُته وهو يحارب من أجل الوطن الذي لم يرجِع، وقد قال شيئا من هذا. يموتون في الخزّان بسبب عشرين دقيقة أمضاها مع شخصٍ صادفه في مركز الحدود الكويتي يثرثر له (لأبي الخيزران) عن فحولِته مع راقصة، فيما يُسأَل هو عن سبب عدم زواجه، وبسخريةٍ منه غالبا. يبدو كارها شخصَه، مأزوما، يودّ أن ينتقم من وضعه، فينصرف إلى جلب المال بأيّ وسيلة، غير أنه يستشعر في جوفِه ذلّا، وهو الذي يصدُق عليه وصفُ مروان له، كائنا هلاميا "بوُسعِه أن يقوّس نفسَه، فيضع رأسَه بين قدميْه، دون أن يسبّب ذلك أي إزعاج لعموده الفقري أو لبقية عظامه".
منذ كتب إحسان عبّاس في مقدّمة طبعة الأعمال الروائية لغسّان كنفاني في 1973 إنه لا يتعذّر علينا أن نرى في أبي الخيزران "رمزاً للقيادة الفلسطينية في بعض الظروف التي مرّت بها القضية، وهي تؤدّي دوراً "قاتلاً" مغرّراً خادعاً ومخدوعاً قائماً على المداورة والمراوغة والكذب، كأنها في ذلك شأن "المهرّبين الآخرين" ممثلي القيادات العربية الأخرى"، منذ تلك القولة، يُرمى أبو الخيزران، في تأويلات نقّاد ودارسين، وكتّابٍ متعجّلين أيضا، بأنه رمزٌ للقيادات الفلسطينية والعربية. وليس دفاعا عن شخصٍ متخيّل، أو عن عبد الرحمن آل رشّي في أدائه الرائع هذه الشخصية في فيلم توفيق صالح "المخدوعون" (1973)، أن أقول هنا إننا، لو يتخفّف أبو الخيزران من هذه الحمولة المُرهقة، الثقيلة، نقرأ "رجال في الشمس" أجملَ، روايةً عن تغريبةٍ فلسطينيةٍ مبكّرة، ثيمتُها العجز عن كل فعل، أبطالُها من عامّة الفلسطينيين، أحدُهم سائق، مجرّب، ظلمتْه الأيام فصار ظالما نفسَه والآخرين. وفي وُسع الأدب أن يحكي عن أفرادٍ مثل الذين بين ظهرانينا، من دون مرموزاتٍ ومحمولاتٍ ومُرسَلاتٍ، ويكون أدبا عظيما. ... يكفيه أبو الخيزران ستّين عاما يحمل وزرا عربيا وفلسطينيا مهولا. آن له أن يرتاح.