أربيل مجدّداً في مهبّ العواصف
تشكّل منطقة كردستان العراق بطبيعة الحال جزءاً من التحالف والكتلة السياسية والأمنية والعسكرية التي تقودها أميركا في المنطقة، ودخلت في تحالفٍ مع مقتدى الصدر والسنّة، ويرفض أهلوها أيَّ حكومةٍ عراقيةٍ تنال هويّتها من خارج الحدود. وتدخل أربيل رويداً رويداً إلى مضمار سباق الطاقة وطرق نقلها إلى أوروبا عبر تركيا، وتتحكّم بجزءٍ مهم من الممرّات البرية لطريق الحرير الجديد، وتسيطر على أصوات الناخبين وفوز المرشّحين عن مناطق بالغة الأهمية والحساسية، مثل شنكال ومناطق في الموصل، بما تشكّله هذه الطرق البرية من أهميةٍ بحساسية عالية لروسيا والصين وإيران، خصوصاً للوصول إلى البحر المتوسط عبر شنكال وشمال شرقي سورية. لذلك تستقبل أربيل الضربات والصواريخ ذات الرسائل والأهداف الواضحة. ومع ذلك، تستمر تلك الرقعة الجغرافية الصغيرة بحجمها، وذات التأثير المديد بفعلها وثقلها في قلب موازين القوى في العراق، في الثبات على الحياة والبقاء والكفاح لمستقبل أفضل.
ونظراً إلى التداخل الجغرافي والبشري والاقتصادي بين أغلب الدول مع الشرق الأوسط، ما عاد من الممكن تفكيك أيّ حدث سياسي أمني بمعزل عن المحيط وتشابك الأحداث، خصوصاً مع أبرز حدثين ساخنين حالياً: الحرب الروسية على أوكرانيا، مع النظرة الشمولية لكلّ حلفاء أميركا على أنّهم جزء من المشروع الأميركي ضد روسيا وحلفائها. وإصرار تحالف أربيل والصدريين وتكتلي "عزم" و"تقدّم" على ترشيح شخصيةٍ من الحزب الديمقراطي الكردستاني لرئاسة العراق، إذ سيعني، من بين ما يعنيه، فضح ممارساتٍ كثيرةٍ كانت تقوم بها كارتيلات السلطة وهدر المال العام والاستثمار فيه، ودعم الجماعات المسلحة خارج الجيش العراقي، والتغطية على فظائع السلطة الموازية في العراق، وانتشال العراق من مشاريع دول الجوار. وتالياً، فإنّ الانتقامات والرسائل السياسية الموجهة صوب واشنطن وأوروبا، غالباً ما تكون صوب الحلقة الأضعف في تلك الموازين، وعلى الرغم من تحكّم أربيل بملفاتٍ كثيرة أو المشاركة الفاعلة فيها، فإنّه بالمقارنة مع متانة أصحاب القرار في التكتل الجيوسياسي في الشرق الأوسط وصلابتهم، تشكّل كردستان العراق الحلقة الأضعف في كامل ذلك التحالف.
من رسائل القصف الصاروخي أن هذا الهجوم هو الأول من نوعه، لناحية نوعية الصواريخ وعددها وأماكن الهجوم التي شملت محطة فضائية
لذلك يحمل القصف الصاروخي على القنصلية الأميركية ومناطق من أربيل ثلاث رسائل مركبة. الأولى: أنّ استمرار مقاومة أوكرانيا ضد الهجوم الروسي سيعني نقل المعركة إلى مكانٍ أو أمكنة أخرى للوجود الأميركي، ولكلّ واحدة شكلٌ وطريقة مختلفة، ففي أربيل كان القصف الصاروخي فيما يستمر تعطيل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في العراق. وربما نجد قريباً أحداثاً مشابهة من حيث المضمون، وإن اختلف الشكل، في لبنان، أو استخدام اليمن لافتعال أحداث مشابهة في دول مجاورة لها. والثانية: هذا الهجوم هو الأول من نوعه، لناحية نوعية الصواريخ وعددها وأماكن الهجوم التي شملت محطة فضائية (kurdistan24) العائدة لرئيس وزراء إقليم كردستان، وهو من يقود حملة تمتين علاقات الإقليم الاقتصادية، خصوصاً في مجال الطاقة مع دول عديدة، ستصبّ، في النهاية، خارج مصلحة روسيا، وتعزّز مكانة الإقليم في سوق الطاقة، وتالياً تمنحه دوراً فعالاً في مختلف القضايا السياسية في المنطقة ومستقبلها، وتفوقاً أميركياً أوروبياً على حساب روسيا وإيران في المنطقة. والثالثة: إعادة تكرار الأسطوانة المشروخة عن "تآمر" كردستان العراق مع إسرائيل ضد العرب والإسلام، وهو ما عبّر عنه التلفزيون الرسمي الإيراني بأنّ "الهجوم الصاروخي على أربيل استهدف قواعد سرية إسرائيلية" (لاحقاً أعلن الحرس الثوري مسؤوليته عن قصف ما أسماه مقراً استراتيجياً لمؤامرات الكيان الصهيوني). وتهمة التعامل مع إسرائيل ظلت ملازمة للوجود الكُردي عقوداً طويلة، فشكّلت ضاغطاً مريباً ضد أيَّ مطلب كرديٍ في أماكن وجوده. لكن ليس بحجم وكمية الغل الذي تعاملت به أغلب دول الجوار مع الإقليم الكردستاني في العراق. كما شكلت التهمة، خلال العقود الماضية، واعظاً نفسياً ضخماً لجم أصواتا وحركات كثيرة كانت تتطلع للمشاركة السياسية للكُرد في مختلف الدول التي تشكلت عقب الاتفاقيات الدولية، بل إنّ كُرد المهجر هم الآخرون لم يسلموا من تداعيات تلك التهمة، عبر اتهامهم بالتواصل أو العمل مع اللوبي اليهودي في أوروبا. لكنّها التهمة ذاتها التي لفحت وجوه التهمة ومصادرها بعد فشل كلّ تلك المحاولات الحثيثة، عبر مؤشّرين واضحين: إثبات مشاركة الكُرد الفعالة في بناء (وحماية) عراق قوي بهويّة عراقية جامعة، بعيداً عن سيطرة الهويّات العابرة للحدود. الشعوب العربية على سبيل المثال التي خرجت للمطالبة بحقوقها هي الأخرى اتّهمت بالعمالة لإسرائيل، واستخدم الرصاص الحي في مواجهة أبسط مطلب بشري للعيش بكرامة.
الإطار التنسيقي شريكٌ فعالٌ في كلّ الضغط والملاحقة والحصار المفروض على أربيل، والبقية ما زالوا يبحثون عن منفذٍ لتشكيل حكومةٍ
ويبدو أنّ المنطقة مهيأة صوب مزيد من التصعيد، وفتح جبهات عسكرية على نطاق محدود، لكنّها تكون بتأثير مديد وتهديد واضح. والأسوأ من ذلك كله هو الهدوء والصمت الأميركي إزاء كلّ ما يتعرّض له حلفاؤها في المنطقة، وغياب أيّ مشروع سياسي واضح المعالم، والاكتفاء بالمجال الأمني - العسكري فحسب، وهو ما يضع حلفاء واشنطن في قوقعة الشك والحيرة والخوف من التمدّد المستمر لمناهضي السياسات الأميركية في المنطقة، والتي يدفع حلفاء أميركا نتائجها من حسابات شعوبهم. ومع استمرار الطرف الآخر من التكتل العالمي، المتمثل بالصين وروسيا وإيران وبعض الجمهوريات العربية في محق تطلعات الشعوب والحقوق السياسية للقوميات وسحقها، وعدم منح أيّ أهمية لحيوات الشعوب وتطلعاتها، فإنّ كُردستان العراق وأمثالها من المناطق ستبقى في حالة شدٍّ وجذبٍ؛ فلا هي قادرة على الخروج من الحلف الأميركي، فبمن ستحتمي حين ذاك من كلّ قوة الشر المتربّص بها، وليس بمقدورها الانسجام مع المزاج العام وفلسفة الطرف الآخر من المحاور العالمية. وما بين هذا وذاك، تبقى الحكومة العراقية غائبة تماماً عن فعل أيّ شيء حيال ذلك، فالإطار التنسيقي شريكٌ فعالٌ في كلّ الضغط والملاحقة والحصار المفروض على أربيل، والبقية ما زالوا يبحثون عن منفذٍ لتشكيل حكومةٍ على أمل البدء بتصحيح المسار العراقي المتعرّج والمعبّد بالمسامير.
قصارى القول: ستبقى أربيل في وجه الأعاصير، طالما بقيت بهذه المواقف السياسية الساعية صوب تمكين وجودها فاعلاً أساسياً في حلبة الشرق الأوسط والدفاع عن حدودها، ورفضها التدخلات الإقليمية في شؤونها وشؤون العراق الداخلية. الصراع واضح المعالم جداً، وتتقن أربيل فنّ تدوير الزوايا والدفاع عن نفسها جيداً، لكنّ ما ينقصها هو الموقف الأميركي الرصين تجاه حماية أمن كردستان القومي.