أزمة السلطة والمراوغة الدولية في ليبيا ..
على الرغم من طول فترة انفراط الأزمة الليبية، لم تتبلور سياساتٌ تُساعد في تحديد ملامح الانتقال إلى الوضع الدائم أو الاستقرار، حيث ظلت حالة الركود السياسي ظاهرة مستمرّة، وتُثير مرحلة ما بعد توَقف الانتخابات الرئاسية والتشريعية النقاش بشأن أهلية التناولين، المحلي والدولي، لتهيئة المناخ للانتقال السياسي السلمي، وخصوصاً فيما يتعلق بالنظر الإقليمي والدولي للنزاع على السلطة والنفط وغياب منظور مستقل أو متماسك للتحول السياسي في ليبيا.
النزاع على السلطة والنفط
منذ كلّفه مجلس النواب برئاسة حكومة بديلة، لم يتمكّن فتحي باشاغا من الوصول إلى العاصمة طرابلس، ولما وصل إليها في 17 مايو/ أيار الجاري، سرعان ما غادرها، وكان قد صَرّح غير مرة عن عزمه دخول طرابلس من دون استعجال استلام السلطة، وسارت محاولاته نحو بدء عمل الحكومة من مقرّي بنغازي وسبها، وتُعد معضلة تَسَلم حكومة باشاغا متسقة مع سوابق النزاع بين حكومات ما بعد الاتفاق السياسي في الصخيرات (2015). وكما ثبُت عدم قدرة أي طرف ليبي على حسم السلطة لصالحه، ظلّ التراخي الأممي عاملاً رئيسياً في تمديد النزاع والمساهمة في تحويله إلى صراع مُسلح. وعلى الرغم من الاعتداد، اسمياً بسيادة مجلس النواب، استمرّ التواصل السياسي مع الأطراف المُتنازعة، وتلك الخارجة على الاتفاق السياسي. ويمكن قراءة مواقف الأمم المتحدة محصلة لتنافر أعضاء مجلس الأمن، كصيغة لمُفاضلاتٍ سياسيةٍ تقوم على توطيد النفوذ الغربي في ليبيا وانحسار الرغبة في دعم تحول ديمقراطي. ولذلك، انغمست الخيارات الغربية في بدائل بهلوانية اكتفت بربط السياسة الليبية بسلطة الاعتراف الدولي، كما تظلّ مشكلة الموازنة قيداً على قدرتها على السيطرة على الوارد وتوفير حاجات السكان. وفي هذا السياق، يمكن قراءة إغلاق قطاع النفط محاولة للمشاركة في الإيرادات النفطية وطرح صيغة للحصول على مخصّصات الميزانية العامة.
ومع اندلاع النزاع بشأن تسليم السلطة، سعى فريق مجلس النواب والحكومة المكلفة إلى استخدام السلطة السيادية في بسط سيطرته على مرحلتين، تمثلت الأولى في توجّه الحكومة في شرق ليبيا وجنوبها إلى الحديث عن تصدير النفط وفق آليات قانونية، 24 أبريل/ نيسان، ما كان يعني وقف الإنتاج والتصدير. ووفق تقديرات وزارة النفط بحكومة باشاغا، انخفض إنتاج الغاز إلى نحو 250 مليون قدم مكعبة وجدت طريقها إلى التصدير، كما انخفض إنتاج النفط إلى النصف، 600 مليون برميل يومياً، أما الثانية، فكانت في 12 مايو/ أيار عندما سمحت بوقف إغلاق القطاع النفطي، ثم عملت على تطوير سيطرتها على الموارد النفطية، عندما أصدر مجلس النواب قراراً بتجميد عوائد النفط في مصرف ليبيا الخارجي، 14 مايو/ أيار، للسيطرة على الأموال وإعادة توجيهها حسب السياسة المالية. ويمكن القول إن سلوك مجلس النواب والحكومة المُكلفة يسير نحو إحكام السيطرة على المورد الرئيسي للدولة وحبسها عن الحكومة في طرابلس. تُعد هذه النقطة متقدّمة في تغليب حكومة باشاغا، وخصوصاً مع تلقي مجلس النواب مشروع الموازنة العامة للسنة المالية 2022/ 2023 حيث تتحدّد على أساسها الحكومة القانونية في البلاد.
سوف تساهم الموازنة الجاري إعدادها في تحديد الحكومة القانونية، حيث يُحدّد قانون الميزانية الجهة المُختصة بالتصرّفات المالية
لم تبدِ الدول قلقاً من توقف النفط كما كان سابقاً، فقد تقاربت مواقف كل من مصر والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبعثة الأمم المتحدة، شركاء مجموعة العمل الاقتصادية، على ضرورة الحفاظ على استقلال المؤسسة الوطنية للنفط والاتفاق على آلية لتوزيع العوائد تكون تحت الرقابة والمساءلة، ووفق بيان السفارة الأميركية في ليبيا، 14 مايو/ أيار الجاري، بدا الاهتمام بحياد القطاع النفطي وبعيداً عن النزاع على السلطة. وبغض النظر عن نقص إمدادات النفط في السوق العالمي، تتلاقى مجموعة العمل على دعم تسليم السلطة عبر التحكّم في الواردات السيادية وضمان توزيعها على الأجور وواردات الغذاء والخدمات العامة.
وفي موازاة الخلاف على إدارة عوائد النفط، سوف تساهم الموازنة الجاري إعدادها في تحديد الحكومة القانونية، حيث يُحدّد قانون الميزانية الجهة المُختصة بالتصرّفات المالية. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى نقطتين: الأولى، أنه حسب خريطة الطريق الصادرة في يناير/ كانون الثاني 2021، يواجه المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية في يونيو/ حزيران 2022 أزمة قانونية تُضعف فرصتهم في الاستمرار حكومة شرعية. ومع عدم وضع مشروع سياسي لرئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، فإن تركيزه على المنح والإعانات سوف يُلقي بأعباء على السياسات العامة. وتتمثل الثانية في حدوث تحوّل بطيء نحو تكوين كتلة متساندة وراء حكومة الاستقرار، فتحي باشاغا، وتساهم زيارة رئيس مجلس الدولة، خالد المشري، القاهرة وتوسيع نطاق اتصالاته مع دوائر متعدّدة في تطوير شبكة علاقاتٍ، تشمل فواعل من كل مناطق ليبيا.
انفتاح إقليمي على ليبيا
وفي ظل تطوّر العلاقات الإقليمية، صارت البلدان الإقليمية مُتقاربة النظر إلى الأزمة في ليبيا، فعلى المستويين، النظري والميداني، ذهبت كل المواقف إلى أهمية الوصول إلى أساس دستوري والانفتاح على كل المُكونات الليبية، فكما وَسعت مصر من اتصالاتها مع كل الأطراف الليبية، فمن جهة، تلاقت مصر، الإمارات، قطر، السعودية وتركيا على تثبيط التنافس الداخلي بين الليبيين وكبح الاستقطاب في علاقاتهم الخارجية. فمنذ أشهر مضت، اتجهت تركيا إلى فتح علاقاتها مع الشرق الليبي. وتساهم هذه التوجهات في التباعد مع تقسيماتٍ سادت السنوات السابقة، ما يُمهد لحالة من القبول المتبادل تجاه الحل السلمي. وفي مارس/ آذار الماضي، دعمت مصر والسعودية قرارات مجلس النواب، الجهة التشريعية، للقيام بدوره الرقابي ومنح الثقة، للحكومة، كما تتلاقى مواقف مصر والمغرب وتركيا على توطين الحل السياسي في ليبيا، وخفض تأثير التدخلات الأخرى. وتشير لقاءات وزراء خارجية البلدان الثلاثة في مايو/ أيار الجاري إلى فرصة توسيع الرؤى المشتركة تجاه الأزمة الليبية.
يُوفر تحسّن الاتصالات الثلاثية بين مصر وتركيا والمغرب محاولةً لتفعيل المساهمة الإقليمية في الأزمة الليبية، حيث تنعقد اللجنة المشتركة في القاهرة في ظل انخفاض التجاذب الإقليمي
قد يساعد التوافق الإقليمي في تمكين الليبيين من تجاوز الخلاف حول الإطار الدستوري، غير أن استمرار نمط التواصل الدولي يشكل تحدّياً للتقارب الإقليمي بشأن ليبيا، ويمكن النظر إلى تحرّكات الديبلوماسية الأميركية من مصر إلى تركيا، وهو نمط تفاعل تقليدي للعلاقة بين المركز والهامش بقدر يحقّق المصلحة على حساب الاستقرار الإقليمي. وفي هذا السياق، يُوفر تحسّن الاتصالات الثلاثية بين مصر وتركيا والمغرب محاولةً لتفعيل المساهمة الإقليمية في الأزمة الليبية، حيث تنعقد اللجنة المشتركة في القاهرة في ظل انخفاض التجاذب الإقليمي.
اتجاهات الهيمنة الغربية
على مدى فترة ما بعد تعطيل الانتخابات، بدت ظاهرة هيمنة التفاعل الدولي في مقابل النشاطين، المحلي والإقليمي، فعلى مستوى التواصل الليبي والإقليمي، بدت لقاءاتٍ محدودة لم يُسفر عنها تقدّم في أي ترتيب انتقالي، حيث استقرت على مُخرجات غير مُتراتبة، فكثير من لقاءات المجلس الرئاسي وحزبي العدالة والبناء، 13 مارس/ آذار 2022، ورئيس مجلس الدولة، خالد المشري، عندما اقتصرت في مستوى التشاور. وعلى خلاف ذلك، ظهرت الاتصالات الغربية، الأميركية والأوروبية، أكثر كثافة من التعامل الإقليمي على الأزمة الليبية، فقد تساندت تحرّكات المستشارة في الأمم المتحدة، ستيفاني وليامز، مع السفراء الغربيين في ملء فراغات ناتجةٍ عن التباعد الإقليمي واختلاف رؤيته إلى الوضع في ليبيا، حيث تراكمت فجوةٌ اتصالية، ربطت الحل السياسي بالإرادة الغربية، فعلى مدى فترة الأزمة السياسية استقرت قناعاتٌ لدى الليبيين بانتظار التصرّف الغربي ومبادراته.
وعلى الرغم من العمليات المستمرة لتشكيل السلطة السياسية، ظلت السياسات الأوروبية والأميركية منفتحة على عوامل تفكيك المرحلة الانتقالية، فقد بقيت اتصالات البعثة الدولية والمجموعة الأوروبية قائمة مع الأطراف المعارضة للحكومات المؤقتة المُعترف بها دولياً، فقد توسعت اتصالات المستشارة الأممية، ستيفاني وليامز، لتشمل كل أطراف الأزمة الليبية، الداخلية والخارجية، فقد عقدت لقاءات مع رؤساء البرلمان ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي وبعض الفواعل المحلية، وذلك بجانب تحرّكات على مستوى الدول، فقد توسّعت الاتصالات مع رئيسي النواب والمجلس الأعلى للدولة، والحكومة القائمة وتلك المكلفة، بالإضافة إلى حُزم أخرى من الاتصالات، بحيث صار الوضع في ليبيا أقرب إلى شبكة علاقات غير متكافئة. ويُشكل نمط التواصل الأميركي مع الحكومتين الأرضية لتفكيك البنى السياسية القائمة والمحتملة، فالاتصالات المُتكرّرة من المبعوث الأميركي، ريتشارد نورلاند، إلى رئيسي حكومتي الوحدة الوطنية وتلك المُكلفة، هي أقرب إلى الهدر والتفكيك منها لدعم الانتقال السلمي.
يمكن تصنيف نشاط البعثة الأممية سلوكاً بيروقراطياً لإنجاز دورة مكتبية، فالمناقشات واللقاءات اليومية هي أقرب إلى العلاقات العامة
وعلى الرغم من اتساع الاتصالات الدولية مع الليبيين والدول الإقليمية، فإنها ظلت تعمل بطريقة استكشافية من دون تبني خيارٍ يُدعّم التوجه نحو الانتخابات، فبعد توقُف الانتخابات، اقتصر توجه البعثة الدولية على تكرار الحلقة المُفرغة عن الشفافية والنزاهة، المصالحة الوطنية، بجانب الحديث عن ملتقى صناع السلام. ويمكن قراءة مبادرة تشكيل لجنة مشتركة من 12 عضواً من المجلسين بديلاً عن اللجنة التي أقرّها التعديل الدستوري رقم الثاني عشر، 24 عضواً، غير أن ستيفاني وليامز اعترفت بقرار مجلس النواب، عندما حضرت اجتماع اللجنة، 8 أبريل/ نيسان 2022، محاولة للبقاء في وضع يسمح لها بمراقبة تصرّفات الأطراف المختلفة، أسوة بغالبية المبعوثين السابقين في تَجَنّب استخدام الصلاحيات الواسعة، حسب القرار 2009، لتُعطي صورة مستمرّة بعدم الرغبة في نقل السيادة إلى حكومة ليببية مُنتخبة، كما يمكن النظر إلى محادثات المسؤولين الدوليين والسفراء مع الحكومات المُتنازعة نوعاً من الرغبة في تمديد النزاع، غير أن النتيجة تبدو أكثر وضوحاً في التلاعب بالاعتراف الدولي بالجهات القائمة.
وحسب طرق الاتصال والمقابلات، يمكن تصنيف نشاط البعثة الأممية سلوكاً بيروقراطياً لإنجاز دورة مكتبية، فالمناقشات واللقاءات اليومية هي أقرب إلى العلاقات العامة، وبدت، في غالب أنشطتها، رهينة للبيانات الخماسية الصادرة عن فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، بريطانيا، الولايات المتحدة، بحيث صارت أكثر تعبيراً عن عجز مجلس الأمن عن تعيين مبعوث جديد منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فقد استمرّت البعثة الأممية، منذ نشأتها في 2011، مَغنماً للموظفين الدوليين من دون توافر الإرادة لحفظ البلاد من التفكك. وفي الوقت الراهن، بدت لقاءات المُمثلين الدوليين مع المسؤولين الليبيين أقرب إلى صداقات العمل منها للبحث عن تسوية سياسية، ومن وجهة تحليل الأنثربولوجيا، يتّجه السلوك نحو الاهتمام بالعلاقات الشخصية. ويُمثل انتقال برناردينو ليون من رئاسة البعثة الأممية إلى وظيفة استشارية نمطاً مُقارباً في تجنّب الخوض في المشكلات الحادّة والنظر إلى مصالح مستقبلية.
وبمرور الوقت، يُراكم السلوك الدولي حالة من عدم اليقين تجاه مستقبل ليبيا، حيث نتج عنها تبعثر القرار بشأن إنجاز شروط الانتخابات وجعلها رهينة رئيس مجلس النواب، فقد توقف المجلس الرئاسي عند التلويح بإعداد قاعدة دستورية من دون القدرة على عقد منتدى وطني للتشاور في مستقبل البلاد أو المساهمة في تطوير مبادرات قائمة، كما بدت اجتماعاته مع سفراء الدول المؤيدة لمبادرة برلين إجرائية، من دون الخروج منها بتوجه يُدعّم الخروج من المرحلة الانتقالية.
تكشف مرحلة ما بعد تعطيل الانتخابات واندلاع الحرب في أوكرانيا مدى قبول الكتلة الغربية جمود الأزمة الليبية وتضاؤل الرغبة في تحريك الوضع السياسي
ويمكن القول إن تحرّكات الممثلين والمسؤولين الأجانب اتسمت بجانبين؛ يتمثل الأول في كثافة التواصل الثنائي مع المسؤولين الليبيين مع اللقاءات الجماعية المحدودة، بحيث صار الأجانب همزة وصل والتنقل بالأخبار والمقترحات فيما بين الليبيين، وبدت ملامح التحرّك الغربي واضحة في التلازم يين تحركات المبعوث الأميركي، نور لاند، ومستشارة البعثة الأممية، ستيفاني وليامز، فقد تشابهت لقاءاتهما إلى حد كبير، سواء من جيث المحتوى أو المسؤولين الليبيين والإقليميين. أما الثاني، فإنه لم تُسفر تلك التحرّكات عن مبادرة متماسكة يمكنها تطوير المناقشات في مستقبل ليبيا، حيث اقتصرت على مقولاتٍ بسيطة عن إجراء الانتخابات على قاعدة دستورية. ولعل المشهد الساسي يتمثل بانتهازية الهيئات الدولية في استخدام سلطتها، وكان واضحاً أن إثارة الانتخابات في العام الماضي واحدةٌ من سياسات إبعاد روسيا عن ليبيا، وليس نقل البلاد إلى مرحلة الاستقرار. وتكشف مرحلة ما بعد تعطيل الانتخابات واندلاع الحرب في أوكرانيا مدى قبول الكتلة الغربية جمود الأزمة الليبية وتضاؤل الرغبة في تحريك الوضع السياسي.
وبشكل عام، تدور ليبيا في أزمةٍ عقيمةٍ لا يسمح الخيال، المحلي أو الدولي، بتقديم مقترحات لالتقاط الحلول أو استلهام خبرات الثورة أو التحول السياسي، فلم يُقدم أي خطاب سياسي ملمحاً فكرياً ملهماً، فعلى الرغم من عيوب الشعبوية الجماهيرية، نظام معمر القذافي، فقد تمتع بمركزية أيديولوجية ساعدته على إجراء تَحول يتجاوز الرؤى التقسيمية لكيان الدولة، وذلك على خلاف التركيبات المنتشرة منذ فبراير/ شباط 2011 التي تبدو فقيرة السياسة، الاجتماع، الاقتصاد والثقافة وظلت أسيرة مقولات تفكيكية عن الديمقراطية والرأسمالية، وأكثر إصراراً على تعدّدية حزبية مُتصادمة مع التركيبات الاجتماعية. وبالتالي، تبدو الانتخابات عاملاً شكلياً يفقد أثره التصحيحي للعيوب السابقة، ما لم تتبلور رؤية أو سياسة لتعريف الدولة الوطنية والتلاقي على المصالح المُشتركة.