أزمة ثقة واستقطاب وتنجيم في لبنان
أن نقول الشيء نفسه تقريباً في لبنان. لم يتغيّر المناخ السياسي الداخلي كثيراً، وزادت الأمور تعقيداً وحيرة مع التكهنات والاختلاف على تقويم الأهداف بعد معطيات عن خلاف أميركي/ فرنسي بشأن الخطوات التالية لجعل اللبنانيين ينتخبون رئيساً للجمهورية، إذ اتصف الموقف الأميركي بالتشدّد في الطلب من فرنسا وقتاً محدّداً لضمان إنهاء الأزمة قبل نهاية العام الجاري، ودفع قطر إلى المبادرة لإنهاء الشغور الرئاسي، وانتهاء بالحل السياسي المتكامل، في محاولة التوفيق بين مواقف الدول الخمس (الولايات المتحدة وفرنسا وقطر ومصر والسعودية). اتخذت الأمور بعداً درامياً مع مع عدم صدور بيان ختامي عن اللقاء الخماسي على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك (صدر نفي متاخر فرنسي وعربي للخلافات)، ومع تعرّض أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الأزمة الرئاسية في لبنان: "إن الخطر أصبح محدقاً بمؤسّسات الدولة في لبنان، ونؤكد ضرورة إيجاد حل مستدام للفراغ الرئاسي في لبنان، وآليات عدم تكراره، وتشكيل حكومة قادرة على تلبية متطلبات الشعب اللبناني". الأمر الذي بدا بمثابة تحذير متقدّم حيال التدهورالذي يشهده لبنان. هذا عدا سخونة السجالات والتباينات الداخلية حيال ملف الحوار، وخطر تنامي أعداد النازحين السوريين، ما دفع قبرص إلى أن تطلق تحذيراً من خطر "انهيار السدّ اللبناني" أمام ضخامة النزوح الذي بات يحتّم تحركاً دولياً، ويضع دول الاتحاد الأوروبي أمام مسؤولياتها، إن هي مضت في التعامل مع الكارثة اللبنانية بمنطق تبرير القصور الأوروبي، والزعم أنّ سورية لا تزال غير آمنة لعودة النازحين من بلدان الجوار.
وفي انتظارعودة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان في زيارته الرابعة إلى بيروت، مطلع الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول)، يبقى بيان اللجنة الخماسية في الدوحة قاعدة العمل السياسي لجهة انتخاب رئيس للجمهورية والإصلاحات. وستحمل عودة لودريان معها مقترحاً جديداً للخروج من المراوحة، فيعرض صيغة البحث عن "الخيار الثالث" في مقاربته التي عكستها لقاءاته ومناقشاته مع الأطراف السياسية، ويشرح ويفصح عمّا جرى، وما انتهت إليه زياراته، في مؤتمر صحافي، قد يتطرّق فيه إلى المعطلين لمبادرته. هذا وسط انعدام الثقة بين الأطراف اللبنانية وحالة الاستقطاب الحادّة مع صعوبة جمع الأضداد تحت سقف واحد، وتبيان ما تريده "الجاليات اللبنانية" من تمويل بلا إصلاحات، ومن دون تقديم تنازلات، كما لو أنها في أيام المتصرفية، أو الانتداب، أو الحرب الباردة.
بات لبنان يمثل قضية ملحة تحتاج إلى حلول مختلفة عن المبادرة التي طرحها رئيس مجلس النواب نبيه برّي
على الرغم من التشنجات الداخلية والمصالح المخفيّة، وصعوبة التكهن بأي شيء إيجابي في الموضوع الرئاسي، حمل اللقاء الخماسي رسائل واضحة وإشارات يمكن تقصيها، أن التباين بين أعضاء الخماسيّة مفيد، وأن ليس هناك خلافات مع الفرنسيين في نظرتهم الواقعية إلى طبيعة التركيبة اللبنانية، وعلى أن الأزمة الرئاسية انتقلت إلى مرحلة متقدّمة أكثر مع حركة قطرية تحمل وجها آخر من المبادرة الفرنسية. ثمّ أن لبنان بات يمثل قضية ملحة تحتاج إلى حلول مختلفة عن المبادرة التي طرحها رئيس مجلس النواب نبيه برّي. وقد تكون حسابات الثنائي الشيعي الدفع إلى مزيد من التشدّد، بانتظار أن يوضع الملف على طاولة الرياض – طهران حصراً، فبرزت الحاجة إلى مقاربة جديدة بدخول السعودية التي تعمدّت الابتعاد ببراغماتية عن مبادرة لودريان. وكان من نتائج ذلك صورة جمعت الأطراف السنيّة مجتمعة في دارة السفير السعودي، في مؤشّر التصويت بغالبية أصوات المجموعة (استثنت رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي).
هذا في إطار اللعبة السياسية اللبنانية الداخلية التي عليها أن تلاقي التحرّك الاستراتيجي أكثر في الخارج مع المحادثات السعودية – الايرانية، وترتيب أوضاع اليمن، والتطلع إلى مراحل تعاون متقدّمة على المسرح الدولي، ما يعني التحضير لمرحلة ضغط أكبر لإنجاز الاستحقاق الدستوري اللبناني. لكن من دون أن تثقل، بشكلٍ يؤثر على مشروعها الشرق أوسطي، والسعي إلى تجميد التناقضات مع إيران، فتصير إمكانية طرح برنامج للحكم ومساعدته اقتصاديا للخروج من الأزمة، وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة متاحة، وتستجيب للأثر الذي تركته زيارة عاموس هوكشتاين السياحية، ولها معان كثيرة، بعد كل الصراخ التي سبقها من موضوع التخييم والترسيم والصواريخ المتفلتة. وقد يشار إلى تبعاتها في الموضوع الرئاسي. هذا تأسيس لمبادرة تركّز على الرئيس الجامع الآتي من المساحات المشتركة وعلى خصائصه، بحيث "لا يكون مستفزّا، وله إلمام بالمواضيع الاجتماعية والاقتصادية"، فالتسمية في انتظار إنجاز التفاهمات على مواصفات رئيسٍ لا يشكّل تحدّيا، وقادرا على الإمساك بالأولويات والالتزام بتنفيذ الإصلاحات واستعادة الثقة مع الشركاء العرب.
لا يمكن القول إن مهمّة لودريان في لبنان انتهت، وهو لم يحضر لفرض حل، أو التسويق لمرشّح رئاسي. اكتفى بتقريب المسافات بين المتباعدين
لا تخفي الدوحة رعايتها اختيار قائد الجيش جوزف عون، إلا أن حراكها الذي بدأ لن يلامس التسمية تلك، لا سيما مع سعي أفرقاء سياسيين إلى تقطيع الوقت وإيصال عون إلى البيت بالتقاعد المريح. الانتقال بلبنان من الساحة إلى الوطن إحدى أهم مهام الرئيس المقبل، أن يعمل بنفس إيجابي وأمل مع الآخرين. ولكن ليس على نحو كاف لجهة الوثوق بتبدّل الأحوال ومتطلبات معينة، مع رسائل مقلقة قد تدفع لبنان إلى واجهة تقاطعات اللعبة الأمنية في الجنوب (وردت في مطالعة لودريان أمام الخماسية)، من اللعب بالأمن التصعيدي الميداني والاستثمار في الفلتان وتهديد أمن مناطق مسيحية، إلى حادثة إطلاق النار على مبنى السفارة الأميركية، وإيقاظ شياطين الأمس، في منطقة محصنّة، توضح إلى أي حدّ صار البلد مكشوفا أمنيا، إضافة إلى أوضاع مخيم عين الحلوة والقتال العنيف فيه بالأسلحة الثقيلة والدمار الهائل، الذي أجبر عددا كبيرا من الفلسطينيين على الفرار إلى خيم نصبت على الشاطئ، في ما يشبه الحرب، مع سعي حزب الله إلى تشكيل طرف سنيّ مسلّح يعمل لصالحه.
في ضوء ذلك كله، يتقدّم "التنجيم السياسي" في لبنان على ما عداه، على أساس أن الأزمات والتسويات في المنطقة مترابطة، ولجهة انفراجات متلازمة في الملفات الساخنة في اليمن وسورية، وذلك أمام سائر الأمور الأخرى الواجب اتّباعها لتدبير شؤون الناس وحيواتهم، والتخلّص من أزمات مما قدرت عليه أيادي السياسيين، فيصير المستقبل من أفلاك النجوم المعلومة والمجهولة في بلدٍ ترك ليفعل ما يريد.
هامش جديد بدأ مع الدور القطري من أجل وضع مشروع الإنقاذ على طريق التنفيذ، ما يعكس تحرّكاً طارئاً مع تحديد فترة معيّنة، يمكن استغلالها لوضع اسم الرئيس على الطاولة.
بالتوازي، لا يمكن القول إن مهمّة لودريان انتهت، وهو لم يحضر لفرض حل، أو التسويق لمرشّح. اكتفى بتقريب المسافات بين المتباعدين والحصول على مواقف نهائية من الطروحات الموجودة. يبقى انتظار نتائج المعالجة، فعدم الالتقاء على اسم يعني أن لبنان جاهز للانهيارالشامل.