أزمة فرنسا أو أزمة الديمقراطية الغربية؟
يثار نقد كثير بشأن التجارب الديمقراطية في دول الجنوب، سواء لأنها لا تمثل الناخبين بشكل حقيقي، أو لأنها بشكلٍ ما "مهندسة" بنتائج معروفة سلفاً، وإن ارتدت ثوب الحرية ومظهر المساواة. ... هذا حادث بالفعل في تجارب دول كثيرة، لكن متابعة واقع الانتخاب في بلدان ما تسمّى "الديمقراطيات الراسخة" تجعل المرء يوقن أن الأمر لا يقتصر على دول العالم الثالث، ذات البرلمانات المزيّفة فقط، بل يمتد إلى دولٍ تعد بالنسبة لكثيرين مثالاً يجب أن يُحتذى.
في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ووفقاً للمسار الانتخابي "الديمقراطي"، لا نجد اليوم فقط أن الناخب محاصر بين الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، وإنما هو مجبرٌ على الاختيار بين مرشّحين، يحاول أحدهما أن يؤكّد على مدى أشهر، أنه قادر على التركيز وغير مصاب بألزهايمر، والآخر هو المعروف بغرابة أطواره وتصريحاته وسلوكه الفريد.
وفق بنيان الديمقراطية الأميركية، الأصوات المليونية الرافضة للتدخل وللحروب، التي ظلت بلادها تشنها على دول الشرق والجنوب، جميعها بلا وزن، مثل الأصوات التي تدعو اليوم إلى معاقبة الاحتلال الإسرائيلي أو إلى تجميد العلاقات معه حتى يتوقف عن جرائمه. ويبدو للمتابع هنا أن الفارق ليس كبيراً بين دول الاستبداد التي تمنع التظاهر وتفرض قيوداً على التجمّعات المعارضة، وتلك المتحضّرة، التي تتيح حقّ إبداء الرأي للجميع، ففي الحالتين ينفّذ الرئيس، أو النخبة الحاكمة، ما يريدانه.
على الرغم من المكانة التي تحظى بها الولايات المتحدة بوصفها قوة عظمى ومثالاً ديمقراطياً، إلا أن ظواهر مثل الرئيس ترامب، وعدم اعترافه بنتيجة الانتخابات التي قادت إلى تنحيته، إضافة إلى ما أثير عن تلاعبٍ بنتيجة التصويت، كل هذا كان يدقّ ناقوس خطرٍ وصل إلى حد التحذير من إقبال البلاد على حرب أهلية. واكتمل هذا "المشهد الديمقراطي" المريب بما حدث قبل أيام من إطلاق نار باتجاه الرئيس السابق والمرشّح الرئاسي الحالي ترامب. الأمر، الذي بدا أشبه بمحاولة اغتيال أعادت إلى الأذهان ما كان يردّده ترامب وأنصاره عن "النظام الفاسد" الخفي، الذي ظلّ يعمل على إبعاده وإقصائه عن المسرح السياسي.
الحماس الكبير والرغبة في إيقاف اليمينيين في فرنسا دفعا الملايين إلى التصويت لليساريين الذين اتّحدوا تحت مظلة "الجبهة الشعبية"
مثال آخر يدفع للتفكير في واقع الديمقراطيات الغربية، هو ما يحدُث في فرنسا حالياً، فبعد أسبوع من الجولة الثانية للانتخابات التشريعية، التي حصل فيها التكتّل اليساري، "الجبهة الشعبية"، على العدد الأكبر من الأصوات، لا يزال الغموض يلفّ الموقف، ولا يعلم أحد كيف ستتكوّن الحكومة ولا من سيكون رئيس الوزراء.
كانت هناك فرحة عارمة بالانتصار على "التجمّع الوطني"، الذي يمثل اليمين المعادي للمهاجرين والمتشدّد، والذي كان حصد العدد الأكبر من الأصوات في الجولة الأولى. الحماس الكبير والرغبة في إيقاف اليمينيين دفعا الملايين للتصويت لليساريين، الذين اتحدوا تحت مظلة "الجبهة الشعبية".
المفاجأة التي لا تزال تثير جدلاً في الأوساط الشعبية كانت اكتشاف أن مجيء "الجبهة الشعبية" في المرتبة الأولى من بين التكتلات والأحزاب لا يعني، بالضرورة، الانفراد بتكوين حكومة أو المضي نحو تشريع قوانين. وفق النظام الانتخابي الفرنسي، ليس المطلوب مجرّد عدد أصوات أكثر، وإنما الحصول على أغلبية مريحة، لأن الأغلبية النسبية لا تعني الكثير.
ما بدا تلاعباً برغبة الجماهير أصاب مؤسّسات شعبية عديدة كانت متحمّسة لحكومة يسارية، بالإحباط. طالبت جهات، مثل الكونفدرالية العامة للشغل، بأن يتاح للجبهة الشعبية المتصدّرة الحق في تشكيل حكومة.
ربما لن يكون من المقبول الحديث عن "دولة عميقة" حينما يتعلق الأمر بفرنسا، فهو تعبيرٌ اعتدنا ربطه بدول العالم الثالث، لكن يمكن القول إن المؤسّسة الفرنسية الحاكمة التي عرقلت وصول اليمين، الذي كان يستهدف إعادة ترتيب القوانين الداخلية وفضّ شراكات مهمّة على المستويين، الإقليمي والدولي، هي ذاتها التي عرقلت وصول اليسار المتشدّد، الذي يدعو، على الجانب الآخر، إلى تقديم الدعم، بشكلٍ "أكثر من اللازم" للاجئين والأقليات، والذي يتمادى، وفق منتقديه، في التعاطف مع قضايا المتأثرين بالهيمنة الغربية في جميع أنحاء العالم، مطالباً بإنهاء حقبة الاستعمار الجديد.
بإمكان النظام أو "المؤسّسة" أن تسمح لسياسية شابة ومتحمّسة بشأن القضية الفلسطينية، مثل مانون أوبري من حزب فرنسا الأبية، بأن تخوض الانتخابات وأن تنافس لدخول البرلمان صوتاً معزولاً، لكن من الصعب أن تسمح باختيار مثلها لرئاسة الحكومة مثلاً أو للتحدّث باسم الدولة الفرنسية، وإن حصلت على ما يؤكّد ثقة الناخبين بها.
ربما لن يكون من المقبول الحديث عن "دولة عميقة" حينما يتعلق الأمر بفرنسا
وفق منطق "المؤسّسة"، الذي قطعت بموجبه الطريق على حكم اليساريين، لا يوجد فائز في هذه الانتخابات التي لم تؤد سوى إلى ولادة ثلاث أقليات متوزّعة بين اليمين واليسار والحزب الماكروني الذي يمكن وصفه مجازاً بحزب الوسط. بهذا، من غير المتوقّع تسليم زمام الأمور للجبهة الشعبية أو نجاحها في تنفيذ برنامجها.
يُطرح سؤال فلسفي آخر في الشارع الفرنسي: صحيح أن "الجبهة الشعبية" حصلت على أعداد ناخبين أكثر، ولكن هل كان ذلك اقتناعاً بتفاصيل برنامجها الانتخابي، أم فقط من أجل قطع الطريق على التجمّع اليميني ومنعه من الفوز؟ القصد من السؤال التشكيك في حقيقة اقتناع المصوّتين بما كان يدعو إليه اليسار، وبهذا إفراغ الانتخابات من مضمونها وسيلة لقياس رغبات الجماهير.
تبدو هذه الأسئلة لأنصار الجبهة الشعبية أشبه بمحاولة تشويش على الحقيقة الواضحة، والمتمثلة في ما لا يمكن اعتباره إلا تجاوزاً لرغبات الناخبين، فبالمساواة بين الرابح والخاسر سوف يعود الأمر إلى الرئيس لاختيار رئيس وزراء مناسب وحكومة تتماشى مع ما يعتبره توجّهاً ثابتاً للدولة، وهو ما يمكن فهمه من تصريحات ماكرون، الذي طمأن الشركاء، خلال قمة حلف الناتو أخيراً، قائلاً إن التزامات بلاده وتعهداتها الدولية لن يطرأ عليها تغيير.