أسئلة سودانية: شرعية جيش وفصائل

22 ابريل 2023
+ الخط -

ليل 14 ـ 15 إبريل/ نيسان الحالي، باتَ مواطنٌ سودانيٌّ وعائلته في منزلهم، من دون أن يعلموا أنهم بعد 24 ساعة سينزحون عنه، لأن قتالاً سيندلع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. أصبح هذا المواطن نازحاً، إن نجا من الموت، في مكانٍ ما من بلاده. ليس هذا السوداني وعائلته وحدهم من سقط فريسة اقتتال داخلي، بل مئات آلافٍ غيرهم، شهدوا ويشهدون على معارك لا تتوقف بين قوتين هما الكُبريان في الساحة السودانية. وبدلاً من "السودانيين" يمكن وضع اسم أي شعب في الشرق الأوسط خصوصاً، وسنحصل على المأساة نفسها، الناجمة عن ضحالة الأفكار السياسية والاجتماعية في بلداننا.

من جملة هذه الأفكار انكسار قدرة القوة الشرعية في بلد ما. قد يكون انكسارها ناجما عن أن تشكّلها بحدّ ذاته كان لحماية نظام محدّد، لا بلد وشعب وديمقراطية، والأهم الحرية. وقد يكون الجيش أيضاً قابضاً على سلطةٍ مركزيةٍ، مانعاً أي حراكٍ سياسيٍّ مدنيٍّ يسمح بتطوّر المجتمع، ما يجمّد مسار بلد تاريخياً، قبل الوصول إلى صدامٍ مع التطوّر المتحرّك. غير أن مبدأ "إسقاط الجيش" بشكل عام لم يأخذ مداه، إلا بعد حلّ الجيش العراقي على يد الأميركيين، وتحوّل ساحات بغداد إلى ميادين نبتت فيها عشرات ومئات الفصائل والمليشيات. في العراق أيضاً، يبدو الجيش وكأنه فصيل آخر من فصائل مسلحة. في اليمن، كذلك، يبدو وكأنه طرفاً ثالثاً يخوض معركةٍ ما. في لبنان، لم تضمحلّ الحاجة إلى الجيش بعد، لكن القبول به طرفاً وحيداً في ضبط الأمن، دونه شروط وعقبات، لا تبدأ من إسباغ منطق الطائفية عليه، ولا تنتهي بـ"التحذير من تحوّله إلى قطعة شطرنج" شرقية أو غربية.

صحيحٌ أن جيوشا عربية عديدة، لا كلها، تبقى أساسية في بلدانها، غير أن الجيش في أوطان التطرّف السياسي، الممزوج بالفقر والمذهبية والإثنية، المعطوفة على تراكم أخطاء سياسية وعسكرية، يُصبح وجهة نظر، لا حالة طبيعية وشرعية، كالتي كانت عليه الحال منذ حضارات بلاد ما بين النهرين والإمبراطورية الرومانية. الثنائية العسكرية في بلد ما لم تؤدّ قط إلى حالة تلاحم بين قوتين، وما لم تبتلع إحداهما الأخرى، يكون القتال النهاية الحتمية لهذه العلاقة. ومهما حاول أصحاب النيات الحسنة تأجيل مشاريع المعارك، إلا أن منطق المجتمعات يفرض نفسه. الأمر الوحيد الذي يسمح بتجاوز فرضية الاحتراب بين قوتين على أرضٍ واحدة انقسام هذه الأرض إلى بلدين. جنوب السودان نموذجاً.

ما فعلته حرب الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم هو إعادة التذكير، بصورة دموية، بنهاية محتمةٍ لكل بلد تتعايش فيه قوتان عسكريتان في الدول العربية. وأوضحت معارك عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) أن تجاهل حقيقة أن تقاسم قوتين مساحة مشتركة من الجغرافية فترة ودفن رؤوسنا في الرمال، لا يعني اضمحلال هذه الفكرة ووفاتها. ما من مؤجّلٍ إلا وسيحين وقته.

وفي مجتمعاتٍ أكثر كمالاً من فكرة امتشاق السلاح، يُمكن بحث كيفية تراجع الفصائل المسلحة في الدولة لمصلحة جيش الدولة ضمن مفاوضاتٍ سياسية، تُتيح لكل فئةٍ في كل وطن الشعور بالاطمئنان البديهي، والإدراك جيداً بأن النزاعات الأهلية ليست حلاً، بل مؤسسةً لمجتمعات يائسة، تعيش من أجل السلاح، لا من أجل حقوقها الطبيعية.

هل يدرك أيٌّ منا كيف ستنتهي الحال في السودان؟ لا أحد يعلم فعلاً. الأمور متروكة للرصاص وللحراك السياسي النابع من التحولات الميدانية. لا أكثر. لكن المعلوم، هو تكرار مشهد النزوح واللجوء والدمار، وكأن السودان أصلاً تنقصُه هذه المصائب. نعم، ليس الخارج عنصراً غائباً في أي صراع، لكن الداخل في الأساس "مؤهّل" للنزعات التدميرية، في السودان وغيره. ربما سيجلس البرهان وحميدتي في وقتٍ ما، لكن المواطن السوداني وعائلته لن يعودوا إلى منزلهم.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".