أسرار أقوى دولة في عهدة النساء

22 نوفمبر 2024

(من اليمين: تولسي غابارد وأفريل هاينز وجينا هاسبل)

+ الخط -

يجتهد العلماء والفقهاء والمؤثرون في مجتمعاتنا في أن على الأمة توجيه قدرات المرأة التوجيه الصحيح والملائم، حفاظاً عليها من الهدر والضياع في أمرٍ لا يلائم طبيعتها النفسية والبدنية والشخصية، ولا يتوافق مع أحكام الشريعة التي حفظت المرأة من الفساد والإفساد. تدعم هذا الاجتهاد وتعزّزه ثقافة مجتمعيّة تشكلت ونمت وترسّخت عقوداً، حصرت المرأة في قالب نمطي ضيق غير قابل للمرونة واستيعاب طلبات العصر والتطوّر الذي حصل في المجتمع الإنساني بشكل عام، هذا القالب المدعوم بقوانين الأحوال الشخصية الذي كرّس مكانة المرأة في حيّز من العطالة شبه الكاملة، لم يُقصها عن مناصب القيادة أو المواقع المؤثرة أو صاحبة القرار فحسب، بل أقصى نصف المجتمع تقريباً عن الفعل الحيوي المطلوب من أجل ازدهار أي أمة أو شعب.

ترشيح الرئيس الأميركي المنتخب لولاية جديدة، دونالد ترامب، امرأة لمنصب مهم وحسّاس في إدارة أقوى دولة، تولسي غابارد، مديرة الاستخبارات الوطنية، ليس مفاجئاً، قياساً بأن المعروف عن ترامب، ومن خلفه غالبية الجمهوريين، كرهه النساء فحسب، بل هو أمر يستدعي الوقوف عنده وتحليله وفهمه وتقدير قيمته، في ما لو أراد الفرد الذي يتحدر من تلك الدول الضعيفة الغارقة بمشكلاتها والحروب التي تخوضها طوعاً أم بالإكراه، فهم هذه الظاهرة. وليس من المعيب في شيء أن يفهم المرء تجربة الآخرين، حتى لو كان يصنّفهم أعداء، خاصة إذا كانوا متفوّقين عليه، ففهم هذه التجارب قد يفتح أبواب فهم الواقع وتقويم التجارب المحلية وفهم التاريخ، خاصة إذا كان عامراً بالإخفاقات والانكسارات، وبالتالي، الاستفادة منها إذا استطاع أن يتقبل فكرة النجاح التي يحقّقها هذا الطرف وما وراءها.

أفريل هينز، التي تولت منصب مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية في 21 يناير/ كانون الثاني 2021، أول امرأة تشغل هذا المنصب، رشّحها الرئيس المنتخب جو بايدن في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بعدما تداول على المنصب ستة رجال قبلها، أولهم السفير الأميركي السابق في العراق جون نيغروبونتي، منذ تأسيس المنصب في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2004 بتوقيع الرئيس جورج دبليو بوش. ويطلب القانون من مدير وكالة المخابرات المركزية (CIA)، إبلاغ مدير الاستخبارات الوطنية بأنشطة وكالته. جاء ذلك بعد إخفاقات استخباراتية كبيرة أثارت تساؤلات بشأن مدى قدرة مجتمع الاستخبارات على حماية المصالح الأميركية ضد الهجمات الإرهابية الأجنبية، كما تقول النقاشات واللجان التي عملت على هذا المقترح.

تخشى النسويات في جميع أنحاء العالم من إلقائهن بعيداً في النضال من أجل حقوقهن

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، تولسي غابارد، عضو مجلس النواب المنتمية للحزب الديمقراطي سابقاً، لمنصب مديرة المخابرات الوطنية، وهي أول هندوسية يجري انتخابها لعضوية مجلس النواب في عام 2012. وهي أيضاً من المحاربين القدامى ومقدّم سابق في الجيش الاحتياطي. وستحل مكان مديرة المخابرات الوطنية حالياً أفريل هينز، عندما يباشر ترامب الولاية الثانية له في رئاسة الولايات المتحدة في يناير/ كانون الثاني المقبل، لتكون ثاني امرأة تتولى هذا المنصب المهم. ولا بد من التذكير هنا بأن جينا شيري هاسبل عينها ترامب في 17 مايو/ أيار 2018 رئيسة لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، ما يجعلها أول امرأة تُدير هذه الوكالة طوالَ تاريخها أيضاً.

ساعدت غابارد ترامب في التحضير لمناظرته في سبتمبر/ أيلول الماضي مع نائبة الرئيس كامالا هاريس، وكانت في الحزب الديمقراطي، ثم استقالت منه، وأيّدت الجمهوريين لاحقاً، وقال عنها ترامب: "أعلم أن تولسي ستجلب الروح الشجاعة التي ميّزت حياتها المهنية اللامعة إلى مجتمع الاستخبارات لدينا، وتدافع عن حقوقنا الدستورية، وتضمن السلام من خلال القوة". وقد اتّخذت، عندما كانت عضو الكونغرس في هاواي، مواقف تتعارض مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بما في ذلك الاجتماع مع الرئيس السوري بشار الأسد في سورية في 2017، وقالت في 2019 إنه "ليس عدواً للولايات المتحدة". وبعد اجتماعها قالت: "عندما سنحت الفرصة لمقابلته، فعلت ذلك لأنني شعرت بأن من المهم أنه إذا كنا نعلن أننا نهتم حقا بالشعب السوري ومعاناته، فعلينا أن نكون قادرين على مقابلة أي شخص نحتاجه إذا كانت هناك إمكانية لتحقيق السلام". وبالنسبة إلى الحرب الأوكرانية، ألقت باللوم على فشل إدارة بايدن، وليس على موسكو، في أوائل عام 2022، في الاعتراف "بالمخاوف الأمنية المشروعة لروسيا في ما يتعلق بأن تصبح أوكرانيا عضوا في حلف الناتو"، وهذا ما دوّنته على منصة X في فبراير/ شباط 2022: "كان من الممكن تجنب هذه الحرب والمعاناة بسهولة إذا اعترف بايدن/ الناتو ببساطة بالمخاوف الأمنية المشروعة لروسيا في ما يتعلق بانضمام أوكرانيا إلى عضوية الحلف، ما يعني وجود قوات أميركية/ الناتو على حدود روسيا مباشرة".

يفسّر ما سبق أسباب اختيار ترامب لها لتولي هذا المنصب، فهي، غير أنها داعمة لحملته الانتخابية، تقدّم خطاباً يتناغم مع تصريحاته النارية عن "إنهاء الحروب"، لكن ما يستجلب الاهتمام هنا، في هذه السطور، هو تكليف امرأة بهذا المنصب الذي ينبغي عدم الخلط بينه وبين مدير وكالة الاستخبارات المركزية، فمدير الاستخبارات الوطنية (DNI)، مسؤول حكومي كبير على مستوى مجلس الوزراء في الولايات المتحدة، بصفة رئيس تنفيذي لمجتمع الاستخبارات الأميركي (IC)، وتوجيه برنامج الاستخبارات الوطنية والإشراف عليه. تقدّم جميع وكالات "IC" تقاريرها مباشرة إليه، ويعمل مستشاراً رئيسياً لرئيس الولايات المتحدة ومجلس الأمن القومي ومجلس الأمن الداخلي في جميع مسائل الاستخبارات، ويقدّم الموجز اليومي للرئيس (PDB)، وهو وثيقة سرّية تتضمّن معلومات استخباراتية من جميع وكالات الاستخبارات الدولية، يجري تسليمها كل صباح إلى رئيس الولايات المتحدة.

كل هذه المهام فائقة الحساسية والسرية لأقوى دولة، تديرها امرأة، في عهد ومباركة رئيس معروف عنه أنه كاره للنساء، ترى كثيرات وكثيرون أن من المرجّح أن تتبع كلمات ترامب خلال الحملة الانتخابية أفعال في رئاسته. وتخشى النسويات في جميع أنحاء العالم من إلقائهن بعيداً في النضال من أجل حقوقهن. مثل بير أتوود التي منذ كانت مراهقة ناضلت من أجل المساواة في الحقوق، ودافعت لاحقًا عن ضحايا العنف المنزلي كونها محامية. تقول بعد فوز ترامب "يبدو الأمر وكأن كل شيء قاتلتُ من أجله طوال حياتي قد جرى محوه للتو".

مهام فائقة الحساسية والسرّية لأقوى دولة، تديرها امرأة، في عهد ومباركة رئيس معروف عنه أنه كاره للنساء

صحيحٌ أن الكراهية ضد النساء تتصاعد بسرعة بعد انتخاب ترامب، وبينما تخشى النسويات في الولايات المتحدة من تعرّضهن لانتكاسة عقود إلى الوراء في الكفاح من أجل حقوقهن، يبتهج أنصار ترامب الراديكاليون بفوزه في الانتخابات، مثل المؤثر اليميني المتطرّف Fuentes.In، الذي بث شريط فيديو يحتفل فيه بترامب، ويقول عن النساء: "جسدك خياري"، في تشويه لشعار "جسدي خياري" وتعزيز للذكورية المستبدّة، حصد ملايين المشاهدات. وصحيحٌ أن رسائل الكراهية ضد النساء على مواقع التواصل قد زادت بفارق هائل في الأسبوع الذي أعقب الانتخابات الأميركية، إلّا ان هناك أسساً راسخة في الوعي المجتمعي والثقافة الاجتماعية التي تطوّرت خلال عقود طويلة، تعد ركناً أساسياً في ازدهار المجتمع الأميركي، وفي رسوخ نظامه. ولا تدعو هذه الأصوات الكارهة للنساء إلى إرجاع المرأة إلى قوانين القرون الوسطى وأعرافها، فهي لا تستطيع دفع عجلة التاريخ إلى الخلف، إنما هناك نقاط خلافية بين شريحتين كبيرتين في المجتمع، تتبنّيان وجهات نظر بشأن الأسرة في الدرجة الأولى، قد لا ينفصل الأمر عن التعصب الأبيض بدرجة كبيرة، مثلما قال جي دي فانس، نائب الرئيس المستقبلي لترامب: "على النساء إنجاب الأطفال للأمة المسيحية البيضاء ثم تربيتهم". إنما لا يمكن الرجوع إلى الخلف وتعطيل إمكانات نصف المجتمع لأنه من النساء فحسب، والدليل الأكبر وصول هؤلاء النسوة اللواتي تحدّث عنهن المقال إلى مناصب بعهدتهنّ أسرار أمة تتباهى وتفتخر بقيادتها العالم، بينما في مجتمعاتنا تبقى المرأة "ناقصة عقل ودين"، ولا تقبل شهادتها بمفردها في المحاكم، بسبب ضعف فكرها، وقوة عاطفتها التي تطغى على قدرتها العقلية، وتحصرها الأعراف والقوانين في زاوية ضيقةٍ بعيدةٍ عن الفعل المجتمعي والسياسي إلّا بما يخدم مصالح الأنظمة المتحالفة بعضها مع بعض، والأنظمة السياسية تعزّز هذه الثقافة وتكرّسها مجتمعيّاً، بل ولا تصطدم مع الواقع فتجري تعديلات على قوانين الأحوال الشخصية، كي لا تفقد سلطتها التي تدرك تماماً عدم شرعيتها، وما تحاول تلك الأنظمة من تقديمه من دلائل على تحقيق الكوتا النسائية ليس إلا شعارات جوفاء تصدُر إلى العالم دليلاً مضلّلاً على الانتماء إلى العصر.

ما يلزمنا قبل كل شيء هو ثورة اجتماعية. سنبقى، من دونها، رهائن الصراعات الدولية والحروب البينية والاستبداد السياسي والديني والمجتمعي، من دون أن يكون هناك أمل بالنهوض من سقطاتنا المتتالية.